سد النهضة وحديث النبوءات .. والنهايات
بعد سنواتٍ من الصعود الموسمي للاهتمام بسد النهضة، تصدَّر الملء الثاني اهتمامات المصريين. وبالتوازي مع شحّ في المعلومات بشأن القضية الأخطر في السياسة المصرية اليوم، أطلقت بورصة التكهنات عما يحتمل أن يكون تحت الطاولة من مساوماتٍ أو اتفاقاتٍ سرّية أو مؤامرات. وحديث المؤامرات غالبًا يمهد الأرض للروايات، والرؤى، العجائبية، فضلًا عن النبوءات وسيناريوهات الصراعات الملحمية ومعارك نهاية التاريخ سوداويات خراب مصر أو كوش (إثيوبي) أو خرابهما معًا. وفي البازار المزدحم، استدعيت نبوءات توراتية وعبارات للمتنبئ المعروف نوستراداموس، وأطل على الشاشات، وعلى صفحات الجرائد الورقية، متنبئون كثيرون .. ولسان حال كل منهم يكاد يقول عن نفسه: "عند جهينة الخبر اليقين"!
وفي العام 1918، رصد المستشرق الروسي، فاسيلي بارتولد، حقيقة تاريخية مدهشة/ كئيبة، استنتجها من تاريخ حضارات عدة، أن أحاديث النهايات تشيع في لحظات تراجع الحضارات، وأنها انتشرت بشكل واسع في خريف عدة حضارات، فلماذا يرى غير قليل من المصريين أن القادم أسوأ، ولماذا ينظرون إلى الغد كمسرح لمأساةٍ تكتب خاتمة مروّعة في أرض الحضارة الأكثر عراقة في العالم؟
مشكلة السد أكثر تعقيدًا بكثير مما يبدو في الحديث الرسمي المصري
قد يكون من مقتضيات الإنصاف الإقرار بأن مشكلة السد أكثر تعقيدًا بكثير مما يبدو في الحديث الرسمي المصري، وأن حجب قدر كبير من الحقائق عن الناس، وصولًا إلى النشر المتأخر لاتفاق المبادئ، يعزّز إحساسًا بالعجز ومناخًا من الغموض أضرّ أكثر مما أفاد. والمكون الديني، بمعناه الواسع، يلعب دورًا كبيرًا في الثقافة السائدة في مصر، وتأثيراته تزداد حدّة منذ قيام الكيان الصهيوني. ورواياتٌ توراتيةٌ كثيرة، وبعض مثيلاتها الشفهية المشرقية، كانت حبيسة بطون الكتب آلاف السنين، قبل أن تزحف على الشاشات، والمواقع الافتراضية، وأوراق الصحف. وبعض هذه الروايات التنبؤية تفقد كل قيمةٍ منطقيةٍ، ويصبح نشرها، في المقام الأول، صيحة احتجاجٍ أخطأت هدفها، وأخطأ من أطلقوها في اختيار الوسيلة. ومصر (الرسمية وغير الرسمية) التي فشلت في الاستفادة من سيلٍ هادر من الدراسات العلمية والسيناريوهات الاستشرافية التي تحذّر، منذ تسعينات القرن الماضي، من "حروب المياه"، فشلت أيضًا بعد ما يقرب من عقود ثلاثة في التعاطي مع حديث التنبؤات والنهايات!
وقائمة المحذّرين مما يهدد مستقبل مصر الآن تضم مؤسساتٍ دوليةً وإقليميةً ومعاهد علمية، وبعضها لم يكتف بالتحذير بلغة تعميم وتجريد، بل تحدّث عن مصر بالتحديد طرف يُرجَّح بقوة أن يكون في مواجهة أول "حروب المياه". ومن المدهشات التي يكشفها تأمل تفاعل كلٍّ من: المزاج العام والمزاج الرسمي في مصر مع أزمة السد، أنهما متباينان ظاهرًا ومتشابهان في البنية، وكلاهما وصل من مساره الخاص إلى النتيجة نفسها تقريبًا: لغة مشبعة بغياب التفاؤل بشأن الأزمة ومآلاتها.
الحتمي لا مكان له في عالم السياسة إلا بقدر السير من دون تفكير خلف تهويمات نوستراداموس ومن سبقوه ومن أعقبوه
والتنبؤات التي تملأ جانبًا لا يُستهان به من الفضاء العام، وضمن ذلك "السوشيال ميديا"، لا تملك أفقًا للخروج من الأزمة، بل تجعل الأزمة واقعة عجائبية تتجاوز العقل والمنطق ومعطيات العلم والتاريخ والمنطق، وهي تتحدّث عن المستقبل نصا لم يعد من سبيل المشاركة في كتابته، وبالتالي لا سبيل إلى استشرافه. والاستشراف، كما تعرفه العلوم الإنسانية، يستهدف، غالبًا، الإمساك ولو بالقليل من خيوط المستقبل بأمل امتلاك القدرة على التأثير الجزئي المحسوب في مساره. وفي السياق نفسه، يمكن وضع حديث الخراب وملاحم نهاية التاريخ.
وانشغال قسمٍ لا يُستهان به من المصريين بهذا الحديث الذي تغلب عليه الكآبة والإحباط، مدفوعٌ من ناحية بالحجب المتعمّد للقسم الأكبر من المعلومات. ومن ناحية أخرى بإحساس مرير بالعجز عن التأثير في القرار السياسي في "مسألة حياة أو موت". وإحساس العجز المشار إليه يسهم في انسحاب العاجزين من "عالم الشهادة" إلى صحراوات العجائبي والتنبؤي والاستسلام للمنحدر الذي يبدو، عندئذٍ، حتميًا. والحتمي لا مكان له في عالم السياسة إلا بقدر السير من دون تفكير خلف تهويمات نوستراداموس ومن سبقوه ومن أعقبوه. وخلال ثلاثين عامًا مضت، لو أبدى المصريون، حكامًا ومحكومين، مزيدًا من الاهتمام الجادّ بتوقعات علماء المستقبليات حول مستقبل المياه، لما انشغل من انشغل اليوم بحديث النبوءات والنهايات.