سردية العداوة التاريخية: المغرب والجزائر من التنافس إلى الحقد
لا يبدو أن العلاقة بين المغرب والجزائر، وهي غير موجودة أصلاً منذ سنوات، تسير، كما يمكن التوقّع عادة عندما تبلغ درجة عالية من الاحتداد بفعل الوساطات التي تسحب من تحتها، ولو إلى حين، عناصر الحرب والانقلاب، في الاتجاه المُراد الذي يُراهن عليه، منذ فترة، دعاة الوحدة والتضامن على الصعيد المغاربي، بل، لعلّي فيما سأقوله "خبير" تشاؤم تَدَرَّبَ عَقْلُهُ على اليأس، ستبلغ الذروة إنْ عن طريق الحرب التي في معناها الويل (الشرّ والعذاب) للشعوب، والوعيد لمشعليها ضدّاً على التاريخ والمصير المشترك، أو عن طريق التآمر الذي في معناه إحداث انقلاب جوهري في الأوضاع المرشّحة أصلاً لكل تحوّل مُدَبَّر بتلك الطريقة. وفي الحالتين معاً، رغم أن الجغرافيا قد لا تتأثر بذلك كثيراً، فإن الخُسران (الإضاعة والهلاك)، قبل وَيْلِ الحرب ووعيدها، أو الانقلاب وتحوّلاته، هو النتيجة المنطقية المؤكّدة عندما تصل الأمور إلى الباب المسدود، وتصل العلاقة، أيّاً كان مستواها، إلى درجة الانفجار.
ولو أمكن للخطاب العقلاني، وهو أخلاقي أيضاً، أن يفيد في شيءٍ، لقلت بلسانه الصّريخ ووازعه المضطرب: إن من غير المنطقي تماماً أن تُتْرَك الأمور هكذا، وهي بين الحرب والانقلاب، لِحُكَّام يعبثون بها على هوى ما يتصوّرونها من معارك وأحقاد أو مشكلات وعقبات. واعتقادي ضمن هذا الخطاب، وهو يُرَادِفُه في الحجّة، أن فئاتٍ من الشعوب المغاربية لن ترضى بهذا إن وعته وعياً ديمقراطيّاً رشيداً، وأن على النّخب المنتمية إلى الأُطر التنظيمية، أو إلى المؤسّسات المُهَيْكَلة، من المسؤوليات ما يوجب، وفي تشريعات وقوانين مغاربية كثيرة تَحْرِيض واضح على فَرْضِ الوُجُوب هذا، أن تعمل وتناضل وتدين، إن تَطَلَّبت المهمة ذلك، غايتُها الفضح المقرون بالدعوة إلى الحوار، وتجنيد الناس للجهر بالمعارضة البناءة، لعلمهم، بالوعي المؤكّد، أن الذين يُصِرّون على العداوة، مهما كانت أسبابها، يسعون بكل تأكيد، والمصيبة أنهم غافلون، إلى تدمير مصائر شعوبهم بالقوّة التي يدفعون ثمن وقودها من مستحقات الضرائب التي تثقل كاهلهم، ومن أرزاقهم، ومن الصمت الذي يكبّل عقولهم والتجاهل الذي يكرّس عزلتهم.
والغريب أننا لم نسمع في أي وقت، أو قليلاً على الأرجح، أنَّ حركاتٍ منظّمة في أحزاب، أو تمثيليات تنسيقية معينة هنا وهناك، جاهرت بالدعوة إلى المصالحة المغربية الجزائرية والمغاربية إجمالاً. والأغرب أنه عندما يُعلم بخبر عن ذلك، فإنه غالباً ما يكون مربوطاً بدولة ما، خليجية، ويكون، قبل هذا وذاك، "خبراً" سرّيّاً يلقى به كالطّعم لاختبار نيّات الحُكّام في البلدين. وهذه وضعية محرجة لعلّها ترتبط، في جانبٍ كبيرٍ منها، بالتحوّلات التي أصابت الظاهرة الحزبية وأطر المجتمع المدني، حين تهاوت الأسس السياسية والاجتماعية والأيديولوجية التي كانت لها، في مرحلة معينة، من "تجربة النهوض" الشعبي التي عمّت الدول المغاربية، وكانت في أساس ما سُمي الربيع العربي في العام 2011.
من غير المنطقي أن تُتْرَك الأمور بين الحرب والانقلاب، لِحُكَّام يعبثون بها على هوى ما يتصوّرونها من معارك وأحقاد أو مشكلات وعقبات
والأغرب أنه عندما تُسْمَع في الأخبار دعوات الوحدة والتفاهم والنضال المشترك من أجل مستقبل أفضل جعلته الجغرافيا، من الناحية الاستراتيجية، في مُلْتَقى "مُتَوَسِّطِي" لكثير من المصالح الدولية والأهمية الإقليمية، لا تصدُر هذه الدّعوات في الواقع، بناء على "تحليل" معكوس للأوضاع، إلا لتكريس مزيد من العداوة بين المغرب والجزائر، وفي تعالقٍ معها إفشال الشعور المغاربي بالأهمية المُعَلَّقة على التضامن والعمل المشترك، حدّاً أدنى لكل مبادرة تسعى إلى تحقيق المنفعة العمومية، القريبة والبعيدة، بناء على تكتل إقليمي من السَّهل أن يُثْبِت حضوره في الساحة الدولية قوة اقتصادية وسياسية فاعلة.
ومن الأمثلة البارزة على هذا المنحى اقتراح الدولة الجزائرية التي تريد الخروج من حالة الإفلاس العام بأسرع قوة "بترولية" ممكنة، باقتراح مشروع تعاون وتنفيذه، أو تنسيق، أو "وحدة" مغاربية مع تونس وليبيا، حَضَّرَت لهما (أي الاقتراح والتنفيذ) في صمتٍ يليق بالمرامي التآمرية التي لا يُراد لها أن تنكشف إلا في ساحة الحسم، وأراها أيضاً في تجاذب عكسي واضح مع السياسات المغربية على الصعيد الإفريقي، ومع المحاولات الجارية منذ أمد لتحقيق المصالحة الليبية، وليس من المستبعد أن تكون، بدوافع ثأرٍ واضح، من السياسة التي دفعت إسبانيا إلى الاعتراف بـ"الحكم الذاتي" في الصحراء جرياً على ما قامت به أميركا، فَتَعَكَّرَت العلاقة الإجبارية التي فرضتها الجزائر على إسبانيا بالمساومة (الغاز مقابل تأكيد مبدأ تقرير المصير للصحراويين).
ويمكن للمحلّل أن يتفهّم جميع الدوافع التي تحمل الجزائر، منذ أزيد من أربعين سنة، على معاكسة المغرب في مختلف مشاريعه وطموحاته بسبب الصحراء، لأن تلك الدوافع، ولها أصول تاريخية وبعضها يعود إلى نوستالجيا حرب الرمال في 1963 المسرودة بكثير من الغِلّ، مفهومة في إطار المنافسة التقليدية بين البلدين. ولا أعفي الدولة المغربية، بطبيعة الحال، من ردود الأفعال المحسوبة، أو الأفعال المؤكّدة بالتخطيط والقصد، التي تقود سياسته العامة في الملاحقة السياسية (للعداوة الجزائرية) حيثما وقع الجهر بها، فلا يتحقّق له منها، عكسيّاً، إلا ما يزيد من حدّة المنافسة والمعاكسة، بيد أن تبرير مختلف الدوافع، من طرف هذا وذاك، بعبارات أيديولوجية تستجدي آمال الشعوب، عندما تركّز على "تحليل الوضعية القائمة في المنطقة المغاربية، والإلحاح على ضرورة توحيد الجهود من أجل رفع التحدّيات الاقتصادية والأمنية لخدمة مصالح شعوب"، فهذا فيه كثيرٌ من الدَّجَل (الكذب والادّعاء، في اللغة)، وفيه كذلك رغبة محمومة في تجاوز الوضعية التي يرسف فيها اتحاد المغرب العربي منذ أصبحت قضية الصحراء عقبة في وجه الهيمنة، من ناحية، والتسليم بـ"الحكم الذاتي" حلّاً من ناحية أخرى.
ويزيد الوضعية التي أحلّلها تعقيداً أن دولة الجزائر، في ظرف أسبوع واحد، أشعلت، بدون مناسبة حقيقية، نار الحقد (طلب الانتقام وتحقيقه)، بعد العداوة، فَوَقَّعَت تصريحاً مشتركاً مع السلطات الإيرانية يدين "احتلال" المغرب الصحراء ويزكّي الانفصال من خلال الاعتراف بـ "حق تقرير المصير"، ثم أردفت ذلك، في اتجاه آخر، بفتح "مكتب تمثيلية" لما سُمّيت "جمهورية الريف" بحضور نشطاء مغاربة في الخارج يمثلون، كما ادّعوا، "المجلس الوطني الريفي" و"الحزب الوطني الريفي"، وهم يرفعون ما يعتبرونه "علم جمهورية الريف" وينشدون، بدون موسيقى، ما يدّعون أنه "النشيد الوطني الريفي".
لا شيء في الموقف الجزائري، على خطله وجسامته لأي دولة، إلا التأويل المعكوس المبني على سياسة ردّ الفعل المتشنّج على المواقف المغربي
وليس من المقصود، بالحديث عن هذا، اتهام الجزائر بإشعال فتيل الحرب، فقد يبادر المغرب بدوره إليها متى ما تهيأ لسلطاته العليا أن الطغيان لا يُردّ، ولربما بما هو أطغى منه، إلا بالقوة بَعْدَ أنْ لم تنفع وساطات، ولا رسائل مودّة وتودّد، ولا رغبات انفتاح على الجار، بل المقصود، حصراً، هو التنديد بالخفّة السياسية، وهي الصادرة عن تصوّر أيديولوجي مفتعل، وتزيّن، في الظاهر، رجاحة فكرةٍ، أو قوّة ضربة يُمكن أن توجّه إلى الخصم في سيادته، أو وحدة أراضيه ... إلخ. ولا شيء في الموقف الجزائري، على خَطله وجسامته لأي دولة، إلا التأويل المعكوس المبني على سياسة ردّ الفعل المتشنّج على المواقف المغربية، والتي تعود بمصدرها، من حيث المنشأ وفي مطلق الأحوال، إلى الموقف من قضية الصحراء نفسها، ولما ترتّب عن الانحياز الجزائري الداعم لـ"تقرير المصير"، من آثار سلبية امتدّت معاركه إلى مختلف المؤسّسات المهتمة والبقاع غير المهتمة.
من الظاهر، أمام مستجدّات من هذا النوع، أن الصراع بين المغرب والجزائر حول الصحراء قد أخذ بعداً جديداً تَطَوَّرَ إليه، عُنْصُرُه الجوهري المتفاعل، الذي يؤكّد العنصر الجوهري الأصل قبل أزيد من أربعين سنة، له علاقة بالوحدة والسيادة لا بالمعارضة السياسية المبنية على فكرة الانفصال. ولا تكون العوامل الظرفية الدافعة له، بصرف النظر عن الحدّة والمستوى والمناخ، الذي يُسْتَغَلُّ عادة لعرضها انطلاقاً من مفاهيم أيديولوجية مُطَوَّعة لمصلحة ما، إلا احتطاباً عشوائيّاً لكل ما قد يزيد العداوة استعاراً، ونار الحرب الممكنة اشتعالاً. لا تحتاج الحرب، كما دلّت التجارب الإنسانية على ذلك، إلا إلى حماقة، أو إلى استفزاز، أو إلى تشنّج، أي إلى كل ما يلغي العقل والتفكير المنطقي لأنهما يرتبطان بالمسؤولية في علاقة بالحساب.