سرقة مع سبق الإصرار
اختارت الدولة اللبنانية، بمؤسّساتها كافة، أن تتخلى منذ سنوات عن مسؤولياتها تجاه المواطنين. لم تكن الأزمة المالية التي انفجرت أواخر 2019 وما تلاها من انهيار اقتصادي ثم انفجار مرفأ بيروت سوى التمظهر الأكثر فجاجة لهذا الواقع. تُرِك المواطنون عمداً تحت رحمة مافيات الكهرباء والمياه والدواء والمستشفيات والمصارف. الجميع يبحث عن نهش اللبنانيين حتى آخر رمق. يختلفون على أمور كثيرة، لكنهم يتفقون على هذه المهمة وكأنها حربٌ مقدّسة ضد الشعب. فكان على اللبنانيين أن يجترحوا سبلاً للصمود، لتدوير المصائب وإدارتها والتعامل معها. انقلبت الأحوال رأساً على عقب. سحقت طبقات بأكملها، من كان في الطبقة المتوسطة وجد نفسه بالكاد يستطيع تأمين قوت يومه، وتخلى عن كثير من أساسيات الحياة لا كمالياتها. ومن كان يعيش الكفاف واجه الأمرين. بات جزء لا بأس به من اللبنانيين ينتظر صندوق الإعاشة الذي تقدّمه منظمات إنسانية وأممية ليأكل، ويعيش على العتمة لأن كلفة كهرباء المولدات الخاصة لا تُحتمل. حتى إن الكوليرا تضرب البلاد. تدرك العائلات جيداً أنها تستخدم مياهاً ملوّثة وتأكل خضاراً، إن توفرت، رُويت بمياه الصرف الصحي، لكن قدرتها على التصرّف معدومة. فحتى ثمن كلور التعقيم غير متوفر، وإن جرى تأمينه فالأولى أن يُصرف على سد الجوع.
وحدها تلك التحويلات الآتية من الخارج، أو ما يعرف ببدعة الدولار الفريش التي اخترعتها المصارف بالتواطؤ مع السلطة الحاكمة، شكلت نافذة لتفادي الوقوع في هوة سحيقة. ولولاها لكان وضع عشرات آلاف الأسر دون الصفر. لكن حتى هذا المنفذ اختارت السلطة أن تسطو عليه، متخذة من الموازنة الجديدة وضريبة الدخل على الأجور أداة لذلك. اختارت الحكومة اللبنانية أن تتعامل مع مواطنيها على أنهم يعيشون في دولة متقدمة، ففرضت ضرائب جديدة تصل في أقصى شطورها إلى 25% من الأجور، تمسّ بشكل خاص من يتلقون رواتبهم بالدولار، لكنها تتغافل عن حقيقة أساسية أنها لا تقدّم لشعبها أي خدمة تستحق بسببها أن تأخذ ضريبة حتى لو كانت فلساً واحداً، سواء ممن كانوا يتلقون رواتبهم اليوم بالليرة اللبنانية أو بأي عملة أخرى.
تبخّرت قيمة تعويضات نهاية الخدمة لمئات آلاف الموظفين بفعل انهيار الليرة اللبنانية، ولا نية للحكومة لتعديلها راهناً. يضطر اللبناني لشراء الكهرباء من المولدات الخاصة بأسعار خيالية، وكهرباء الدولة أصبحت، كضيف خجول، لا تأتي في أحسن الأحول أكثر من ساعة يومياً قبل أن تغيب لأسابيع. ويجبر اللبناني، بشكل دوري، على شراء المياه للاستخدام المنزلي لأن الدولة عاجزة عن إيصالها إليه، لا بسبب شح المياه بل لغياب الكهرباء. ويضطرّ المواطن لأن يدفع كلفة الاستشفاء من جيبه الخاص بالدولار حتى لو كان لديه تأمين طبي، فمن حيث لا يدري سيخبره المستشفى أنه توجد فروقات لا بد من دفعها نقداً، وإلا فلا علاج له. وكم من مرضى اختاروا الموت بصمت لأن لا حول ولا قوة لهم في هذا البلد بعدما تركتهم الدولة لمصيرهم. كما يجبر اللبناني على دفع فاتورة دواء لا تقل عن أربعة أضعاف، في أحسن الأحوال، مقارنة بكل دول الجوار، لأن مافيا الدواء تتحكّم بالأسعار وتأتي أرباحها الخيالية في المرتبة الأولى.
لا يحقّ للدولة اللبنانية أن تطالب مواطنيها بفلس واحد قبل أن تضمن لهم حقوقهم الأساسية في العيش الكريم والطبابة والتعليم، وأن تعترف بأن المواطنة تتضمّن حقوقاً وواجبات متبادلة يفترض أن تلبي الجزء المتعلق بها، قبل أن تتجرأ على أن تطالبهم بأي أمر آخر. وما عدا ذلك، فإن كل ما تقوم به منذ 2019 لا يمكن وضعه إلا في خانة السرقة الموصوفة والوقحة.