سرّ كلّ هذه الوحشية الإسرائيلية
تنفذ سلطات الاحتلال، منذ نحو أربعة أشهر متواصلة، في الضفة الغربية، عملية عسكرية متصاعدة من دون توقف أو انقطاع، تحت مسمّى "كاسر الأمواج" تطاول المقاومين والنشطاء السياسيين والمدنيين من مختلف الأعمار، وتشمل المؤسسات الاجتماعية، بما في ذلك جمعيات حقوق الإنسان والإعلام، ولا تتورّع عن استخدام القوة المفرطة ضد الرجال والنساء والأطفال، وتُمعن في القتل من مسافة صفر، والإعدامات بدم بارد، والترويع والاقتلاع وهدم البيوت، وتشنّ، في الوقت ذاته، حملة اعتقالات يومية واسعة النطاق، وتحتجز جثامين الشهداء، وغير ذلك من الارتكابات الفاشية، على نحوٍ لا سابق له منذ سنوات طوال، بهدف كسر روح شعبٍ يواصل معركة البقاء والصبر والمقاومة بكلّ الأشكال.
لا يحتاج الأمر إلى قدرة عبقرية للوقوف على منابع هذه الوحشية المتمادية لدولة احتلال متموضعة على جناح طائرة حربية من صنع أميركي، ولا إلى معارف خبير في الشأن الإسرائيلي، لتبيان دوافع مسلك إجرامي مدان بكل المعايير، إذ يمكن لكلّ عينٍ بصيرة أن تشاهد عن بُعد جملة طويلة من العوامل والأسباب وراء كلّ هذا الفجور الفالت من عقاله، في مقارفة الجرائم الموثّقة بالصوت والصورة في بعض الأحيان، وأن تقف بنفسها على كثير من مكوّنات هذه الوحشية الملازمة لكل احتلال، مثل الشعور بالاستعلاء العنصري، وغطرسة القوة المجرّدة، واستفحال الكراهية، والرغبة الجامحة في الاستملاك ونهب الأرض، ناهيك عن اختلال الموازين، والإفلات من العقاب وغيره الكثير.
تضع هذه العجالة جانباً كلّ تلك العوامل المذكورة آنفاً، لتتحرّى أمراً واحداً من كلّ تلك الأسباب خلف هذه الوحشية المتجلية في الضفة العربية آناء الليل وأطراف النهار، ونعني به الذعر الضارب عميقاً في عمق أعماق مجتمع مصاب بالرهاب من الذكريات التاريخية، وبالرعب من عقدة الفناء عند أول هزيمة، والخوف المستتر تحت غلالة من القوة إزاء عناد شعبٍ انبعث من تحت الرماد، وبات اليوم رقماً صعباً غير قابل للامحاء، وآل إلى حالة وطنية مختلفة عن تلك التي كانت قبل أكثر من سبعة عقود، فقد غدا أصلب عوداً، وأكثر عدداً، وأرقى وعياً وأرفع علماً، وأفضل أداءً في إدارة الصراع، ناهيك عن ميلاد جيل جديد أشدّ بأساً ومضاءً من جيل الأجداد والآباء.
ومع أنّ كلّ هذه الوحشية كانت حاضرة منذ ما قبل حرب 1948، ثم ظلت متواصلة عبر مجاز دموية لا نهاية لها، فإنّ جديد تجلياتها وضوحاً كان في زمن الانتفاضة الثانية قبل عشرين سنة، حين بلغت هذه الوحشية ذروتها بإعادة احتلال الضفة الغربية المحتلة، ومقارفة أبشع أدوات القمع والقهر والقتل والاعتقال، ليس فقط لوقف الانتفاضة، وإنّما أيضاً لتحقيق ما سمّي حينها "كي الوعي" لشعبٍ متمرّد على الظلم، وإعادة زرع الخوف في أعطافه من الجلاد، وبث الشك واليأس في قلبه حيال قدرته على كسب معركة أو تحقيق أي إنجاز، ومن ثمّة تبديد حلمه بنيل الحرية والاستقلال.
لدينا اليوم مثالان ساطعان على تمادي الوحشية الإسرائيلية من دون كابح أو قيد: أولهما قتل الصحافية البارزة شيرين أبو عاقلة عن سابق قصد، لخوف المحتلين من الحقيقة وازدرائهم حق الإنسان الفلسطيني في الحياة، ولعل المشاهد التي رافقت تشييع شيرين في القدس، وما تخلّل موكب الجنازة من وحشيةٍ تجلّ عن الوصف، خير دليل إثبات على استشراء الذعر الساكن في الوعي الإسرائيلي العام، وانكشاف أحد أهم الأسرار المؤسّسة لهذه الوحشية وهذا الإجرام. أما ثانيهما فهو ماثل كالشمس في رابعة النهار، في الإصرار على استمرار اعتقال الأسير خليل عواودة، المضرب عن الطعام منذ نحو 165 يوماً، وذلك لخفض الروح المعنوية لدى شعبه الأسير، وحرمانه من الشعور بالقدرة على تحقيق أي انتصار، مهما تواضع مثل هذا الانتصار.
وعليه، يمكن الاستنتاج بكلّ ثقة أنّ الذعر المستوطن في عمق أعماق دولة الاحتلال، والمصاحب لها منذ نشأتها بالحديد والنار، هو سرّ أسرار كلّ هذه الوحشية التي شاهدناها في غزّة قبل نحو شهر، ونراها اليوم في الضفة الغربية خلال الليل والنهار، كما لا يمكن لصاحب عقلٍ مستنير ألّا يربط بين تفاقم مظاهر الوحشية هذه وتفشّي حالات التطبيع المجاني من بعض دول الأطراف مع دولةٍ لا تقيم أدنى اعتبار لكلّ من يخفض لها جناحاً، أو يدير لها الخد الأيسر إذا صفعته على الخد الأيمن، حتى لا نقول ما هو أشدّ مضاضة على النفس.