سموتريتش وجابوتنسكي وحلم ضم الأردن إلى "أرض إسرائيل"
"لنهر الأردن ضفتان؛ الضفة الأولى لنا والثانية لنا أيضا".. زئيف جابوتنسكي، عام 1930.
حين ألّف الصهيوني زئيف جابوتنسكي (1880 - 1940) قصيدة "الضفتين"، التي أصبحت نشيدا لحركة الشبيبة الصهيونية التصحيحية (بيتار)، كان يهدف إلى تعبئة اليهود لتبنّي فكرة "إسرائيل الكبرى" لتضم فلسطين التاريخية وشرق نهر الأردن، أي الأردن حتى بعد تأسيس إمارة شرق الأردن، لكن مؤتمر الصهيونية العالمي رفض الفكرة، وأصرّ على أولية التركيز على الدولة اليهودية على أرض فلسطين التاريخية. غير أنّ الفكرة لم تمت تماما، لذا نجد من يحييها بين فترة وأخرى، فالأسطورة الدينية، القابلة للتكيّف مع الطموحات السياسية، تستطيع أن تجعل من الأردن والجولان وكل العالم العربي حقاً لدولة إسرائيل، تحت شعار "من البحر إلى النهر". لكن الجديد أن زعيم الصهيونية الدينية الحالي، بتسئيل سموتريتش، يشغل منصب وزير المالية، وقد رهنت الحكومة الإسرائيلية كامل الضفة الغربية تحت سلطاته وسيطرته. وإنكاره وجود الشعب الفلسطيني منسجمٌ تماما مع توجهاته وطموحاته، التي أعلن عنها عام 2017، وملخّصه أن الحل أشرف على الانتهاء وأن الأرض لا تتّسع لغير اليهود، إلا من يرضى من العرب بالبقاء تحت سيطرته، ويتخلّى عن أمل تحرير فلسطين وحقوقه التاريخية. .. وهذا هو ملخّص فكر سموتريتش، المنسجم تماما مع الأيدولوجيا الصهيونية، وليس تجاوزا أو يمثل تيارا متطرّفا، بل هو أكثر صدقا في التعبير عن المشروع الصهيوني الكولونيالي العنصري، بدون رتوش أو تجميل.
ليس واضحا ما إذا كان سموتريتش قد تحدّث سراً عن ضم الأردن، وقد لا تكون هناك سابقة له كأن يتحدّث أمام منظمات صهيونية متطرّفة في باريس، رفعت الخريطة التي ضمت كلا من فلسطين والأردن، بوصفها "أرض إسرائيل"، فهذه المجموعات جميعها استكمال للحركة الصهيونية التي لا تعير اهتماما لسيادة أي دولة عربية، فإذا تطلّب الأمر التوسّع وتأمين حاجات المشروع الصهيوني، فلا وجود للأردن أو غير الأردن، لكن الأردن، الامتداد التاريخي لأرض فلسطين، هو الأقرب إلى الاستهداف والتوسّع.
لن يصبح شعار "الأردن جزء من إسرائيل" سياسة رسمية صهيونية، أو ليس بعد، لكن ما نشهده هو أزمة مشروع لا يمكن تحقيقه كاملا بدون الخلاص من الفلسطينيين، وبالتالي، تصبح دعوة سموتريتش إلى محو بلدة حوّارة هي شعار مرحلة كاملة؛ فالنكبة عام 1948، والنكبة التدريجية المستمرّة لم تقضيا على إرادة الشعب الفلسطيني. لذلك؛ لم يبق سوى ارتكاب سلسلة مجازر علنية تفرضها إسرائيل على العالم، مستغلّة صمته الفعلي لإنجاز المشروع الصهيوني.
المشروع الصهيوني يراوح في رؤيته إلى الأردن "ككيان وظيفي" لاستيعاب الفلسطينيين، وكبح مقاومتهم ووأدها، إلى محاولة جعله "ثكنة لحماية إسرائيل"
لذا؛ لن يكون مستغربا إذا أصبحت الخريطة المصطنعة في باريس رمزا للتحريض وتعبئة أجيال جديدة، فإسرائيل أولا، لكن المهم هنا أن حادثة باريس بعثت رسالة إلى كل الدول العربية، أن لا معاهدة سلام ولا تحالف إبراهيميا، أو غير إبراهيمي، سيغيّر من موقف القائمين على المشروع الصهيوني من أي تركيبةٍ أو دولةٍ تقف عثرة أمام فرض شرعية كاملة لضم إسرائيل الأراضي الفلسطينية، أو أيّ أراضٍ أخرى، واقتلاع الشعب الفلسطيني. ونحن لا نتحدّث عن الأردن فحسب، فإسرائيل قرضت مرتفعات الجولان السورية، فمتطلبات المشروع الصهيوني تعلو على أي شيء، ومعاهدة ترسيم الحدود مع لبنان، المعلنة أخيرا، قرضت جزءا من المياه الإقليمية ومصادر الغاز اللبنانية، ولن نستغرب إذا أصبحت إسرائيل أو حاولت أن تصبح شريكة في مصادر النفط والغاز الخليجي، فالمشروع الكولونيالي لا يُبنى على الصداقة بين الشعوب، وإنما على التمدد والسيطرة.
بتسئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، والحاخام مائير كاهانا قبلهما، هم نتاج مشروع إقصائي إلغائي إبادي، يعتمد على التخلص من "الآخر"، أي صاحب الأرض الأصيل، لأن مجرد وجود الشعب الأصيل يشكّل خطرا وجوديا على المشروع الصهيوني. والعالم العربي، بالرغم من تخاذله، هو امتداد إثني، قومي وديني، للشعب الأصيل، ولذا؛ فتطويع دول المحيط وشعوبها وفصلها عن فكرة المشروع الوطني التحرّري الفلسطيني، وأي تضامن عربي، مهما كان ضعيفا، هو تأكيدٌ على استمرار الخطر الوجودي للشعب الأصيل، أصحاب الأرض، على إسرائيل.
لحالة الأردن، كما أشير سابقا، خصوصية؛ فالمشروع الصهيوني يراوح في رؤيته إلى الأردن "ككيان وظيفي" لاستيعاب الفلسطينيين، وكبح مقاومتهم ووأدها، إلى محاولة جعله "ثكنة لحماية إسرائيل". وعلى الرغم من فشل إسرائيل، لا احترام لدى أصحاب المشروع الصهيوني تاريخ الأردن وحاضره، ولكن إسرائيل تعي أن رؤيتها لا تعكس الواقع، فالعشائر الأردنية من أول من نبّه إلى الخطر الصهيوني ووقف ضد حركة الاستيطان الصهيوني، عام 1919، وتنبّهت عشائر الأردن وشخصياتها إلى طموحات الحركة الصهيونية في الأراضي الأردنية، وحذّرت منه في "مؤتمر الشعب" عام 1933، بل وهناك محطّات كثيرة تصدّرت العشائر تصدّيها للمشروع الصهيوني، فقد كان هناك وعي عميق بأن الاستيطان الصهيوني خطرٌ يتهدّد الأردن والهوية العربية، وليس فقط فلسطين والفلسطينيين.
لن يصبح شعار "الأردن جزء من إسرائيل" سياسة رسمية صهيونية لكن ما نشهده أزمة مشروع لا يمكن تحقيقه بدون الخلاص من الفلسطينيين
وعليه؛ ردّة فعل الأردنيين الغاضبة على خريطة تبتلع الأردن وفلسطين جدّية، وتدلّ على أن ما حاولت إسرائيل أن تكسبه من معاهدة وادي عربة عام 1994، من بناء سلام دافئ مع الشعب الأردني، بدّدته كل التهديدات بإنهاء وجود الشعب الفلسطيني، من قبيل تضامن وطني وخوف من محاولات تفكيك الأردن لجعله وطنا بديلا للفلسطينيين، وإن كان موضوع "الوطن البديل" لا يهدف إلى إعطاء الأردن إلى الفلسطينيين، وإنما المقصود منه إنهاء الهوية الفلسطينية، وتقويض استقرار الأردن ومستقبله. ولذا تتردّد، بين فترة وأخرى، دعواتٌ مشبوهةٌ إلى إقامة "كونفدرالية" أردنية - فلسطينية، تحت السيطرة الإسرائيلية، فلا تكون كونفدرالية، التي هي وحدة بين بلدين مستقلّين، ولا ذات سيادة، فكلها سيناريوهاتٌ تهدف إلى تمكين إسرائيل من إنجاز المشروع الكولونيالي على حساب الفلسطينيين، وفي هذه الحالة على حساب الأردن وفلسطين.
عشية توقيع معاهدة وادي عربة، وما بعدها، جرى تبرير الاتفاقية على أساس "الحفاظ على الأردن من التمدّد الصهيوني"، لكنها معاهدة، وما تبعها من اتفاقياتٍ تطبيعية، هدفت إلى ربط الأردن بإسرائيل التي لم تغيّر أيدولوجيتها ولا مخطّطاتها، بل تضعف اتفاقيات الغاز والمياه المحلاة مقابل الطاقة الشمسية و"بوابة الأردن" من الأردن، وقدرته على حماية نفسه، إذ لا يوجد سلام، وإنما استمرار لهيمنة صهيونية تتمدّد تحت ذريعة "سلام"، أو "متطلبات أو شروط أمنية"، لصالح إسرائيل، فلا احترام لأمن دولة عربية وأمان مواطنيها، فأحيانا تحت التهديد إن تتطلب الأمر ذلك، وغالبا ما يكون التهديد الأميركي أو الإسرائيلي، ظاهرا كان أو مخفيا، هو العامل الأكثر حسما.
"فلتُقطع يميني إذا نسيتُك يا شرق الأردن"، أقسم زئيف جابوتنسكي في شعره. لم يتفوّه بتسئيل سموتريتش بتهديدات بضمّ الأردن بعد، لكن من ينكر وجود فلسطين ينكر وجود الأردن، فجابوتنسكي وسموتريتش وليدان للمشروع نفسه. ... غير أن فلسطين باقية، والأردن باقٍ، إلا أن الدفاع عن الأردن لا يكون بتعميق التطبيع مع المستعمر... وإنما بإلغائه.