09 نوفمبر 2024
سميح شقير شاعراً.. أيضاً
أما أن سميح شقير، الاسم العالي القيمة في الأغنية الوطنية والثورية والسياسية (والعاطفية) العربية، هو من يكتب، غالبا، أغنياتِه، فذلك لا يعني أنه شاعر، فالأغنياتُ كلماتٌ، وليست قصائد. هذا هو المتعارف عليه، صحيحا كان أم خطأ. ولكن سميح شاعر، لو لم يكتب كلمات أغنياته، المنتسبة تقليديا إلى صنف الأغنيات الملتزمة. هو شاعرٌ، فقصائدُه ضمّها في مجموعتين. صدرت الأولى عن دار كنعان في دمشق، في العام 2006. وصدرت الثانية، أخيرا (2018)، عن دار ميسلون للطباعة والنشر والتوزيع (الدوحة، غازي عنتاب). وهذه لا يعطيها سميح عنوان أيٍّ من القصائد فيها، وإنما السطرَ الأول لواحدةٍ من هذه القصائد، ولا أعرف إن كان يجوز اعتباره "مطلع" القصيدة، وإنْ أرجّح عدم جواز هذا الأمر، لأنه يبدأ بواو العطف، ما يعني أن الشاعر سميح شقير أسبَقَ هذا السطر بمقطعٍ أو مطلعٍ أو سطر، لم ينكتب في القصيدة، وإنما هو مبثوثٌ وحسب، قاله الشاعر ولم يكتبه. هذا السطر، عنوان الديوان "ولا يشبه النهر شيئا سواك..". والقصيدة سمّاها صاحبنا "ترجّل"، وهذا ليس فعل أمر، كما قد يصل إلى أفهام قارئ هذه المقالة، ولم يقرأ القصيدة بعد، وإنما هو فعل ماضٍ، يتعلق بالمُهدى إليه هذه القصيدة، وهو صديقٌ للشاعر، تحت التعذيب ترجّل.
أين جرى هذا التعذيب؟ لا تُفصح القصيدة عن هذا. كما أن قصائد المجموعة الشعرية غالبا هي عن موتٍ كثير، وعن حربٍ وقصفٍ وحصار، وعن قنّاص في مخيم، وعن عساكر وبراميل قاتلة، وعن رصاصٍ وقبورٍ وبنادق وأعداء.. أين هذا كله؟ أي بلادٍ هذه التي تُشغل الشاعر وقصائده، وفيها يترجّل الصديق بعد تعذيبه، وفيها يحكي قناصٌ عن تسديدِه الرصاص على إرهابيةٍ تحمل ظل طفلها، وفيها يطلب الولد من أمه أن توقف الحرب، وتمنع الطيران من رمي البراميل اللعينة. وفيها مقتولٌ لا شيء يشبه مقتلَه، ولا قبر له. وفي القصائد أجسادٌ تتكوّر، وتصبح طيف أشباحٍ، وثمّة عاشقٌ ذو حظ عاثر، وأشجارٌ تتمايل مع الريح.. ثمّة موجوداتٌ كثيرة، من الدماء والظلال والمدن والمجرّات والحكايات، مما لم يتفضّل علينا سميح شقير، في قصائده، الرهيفة عن حق، فيُخبرنا في أي البلاد هذا كله.
تُراها البلاد هي سورية؟ ربما. .. ليس فقط لأن كاتب القصائد سوري، أنفاسُه تتصادى مع أنفاس أهل بلده، وإنما لأن الحرب التي لا يُراد لها أن تتوقف تجري في سورية، ولأن البراميل لا تنشط إلا فوق سوريين مكلومين، يبحثون عن دقائق يعيشون فيها بلا موت. لا بأس إذاً من القول هنا إن سميح شقير اختبر قدرتَه على الإيحاء، على تكثيف المعنى، على العثور على الجوهري الإنساني، وأفلح في هذا كله، لمّا انصرف إلى الشعر الذي يتوسّل الهمس غالبا، لكنه يضجّ بأوجاع الفجيعة الثاوية. الشعر الذي ينكتب عن سخط الروح وغضبها، من دون صراخ. يكفي الأنينُ الخافت، يكفي الصمتُ الذي يسبق الموت، يكفي النشيجُ الطالع من دمٍ موزّع هنا وهناك.. يكفي أن تقرأ سطورا من شعرٍ حارٍّ عن عجوز متكئ تحت شجرة بلوط، يخاطب قادما إلى الجبال، يهوى تسلقها، يحب الحياة فقط، لكن حدود الكون التي يسأل عنها بعيدةٌ هناك.. وهناك تعني حائطا لمقبرة.
لماذا هذا الذي يفعله سميح شقير؟ لماذا كل هذا الموت في قصائده هذه؟ لماذا طائرات الكون تقصف أسطح الناجين؟ لماذا المدن عنده محاصرةٌ؟ لماذا سهمٌ مغروسٌ في قلبه؟ لماذا هذا كله، ثم لا جغرافيا يؤشّر إليها. ثمّة شامٌ مرة، ودمشق لها سلام. ثمّة نهر السين أيضا. ومرّة ثمّة سارق ثورة، أو محض سارق. ومراتٍ ومراتٍ ثمّة ليل وعتم، وأرواحٌ لأحباب غائبين. وثمّة بين القصائد رسوم لأجساد مبطوحةٍ أو متروكةٍ أو مهملة، وأخرى واقفة، وثمّة ناياتٌ ووجوهٌ، وعيونٌ تبحلق في غامضٍ لا دال عليه.
نجح سميح شقير الحالم بالحرية مغنيا. وفي "ولا يشبه النهر شيئا سواك.." نجح سميح شقير شاعرا.
أين جرى هذا التعذيب؟ لا تُفصح القصيدة عن هذا. كما أن قصائد المجموعة الشعرية غالبا هي عن موتٍ كثير، وعن حربٍ وقصفٍ وحصار، وعن قنّاص في مخيم، وعن عساكر وبراميل قاتلة، وعن رصاصٍ وقبورٍ وبنادق وأعداء.. أين هذا كله؟ أي بلادٍ هذه التي تُشغل الشاعر وقصائده، وفيها يترجّل الصديق بعد تعذيبه، وفيها يحكي قناصٌ عن تسديدِه الرصاص على إرهابيةٍ تحمل ظل طفلها، وفيها يطلب الولد من أمه أن توقف الحرب، وتمنع الطيران من رمي البراميل اللعينة. وفيها مقتولٌ لا شيء يشبه مقتلَه، ولا قبر له. وفي القصائد أجسادٌ تتكوّر، وتصبح طيف أشباحٍ، وثمّة عاشقٌ ذو حظ عاثر، وأشجارٌ تتمايل مع الريح.. ثمّة موجوداتٌ كثيرة، من الدماء والظلال والمدن والمجرّات والحكايات، مما لم يتفضّل علينا سميح شقير، في قصائده، الرهيفة عن حق، فيُخبرنا في أي البلاد هذا كله.
تُراها البلاد هي سورية؟ ربما. .. ليس فقط لأن كاتب القصائد سوري، أنفاسُه تتصادى مع أنفاس أهل بلده، وإنما لأن الحرب التي لا يُراد لها أن تتوقف تجري في سورية، ولأن البراميل لا تنشط إلا فوق سوريين مكلومين، يبحثون عن دقائق يعيشون فيها بلا موت. لا بأس إذاً من القول هنا إن سميح شقير اختبر قدرتَه على الإيحاء، على تكثيف المعنى، على العثور على الجوهري الإنساني، وأفلح في هذا كله، لمّا انصرف إلى الشعر الذي يتوسّل الهمس غالبا، لكنه يضجّ بأوجاع الفجيعة الثاوية. الشعر الذي ينكتب عن سخط الروح وغضبها، من دون صراخ. يكفي الأنينُ الخافت، يكفي الصمتُ الذي يسبق الموت، يكفي النشيجُ الطالع من دمٍ موزّع هنا وهناك.. يكفي أن تقرأ سطورا من شعرٍ حارٍّ عن عجوز متكئ تحت شجرة بلوط، يخاطب قادما إلى الجبال، يهوى تسلقها، يحب الحياة فقط، لكن حدود الكون التي يسأل عنها بعيدةٌ هناك.. وهناك تعني حائطا لمقبرة.
لماذا هذا الذي يفعله سميح شقير؟ لماذا كل هذا الموت في قصائده هذه؟ لماذا طائرات الكون تقصف أسطح الناجين؟ لماذا المدن عنده محاصرةٌ؟ لماذا سهمٌ مغروسٌ في قلبه؟ لماذا هذا كله، ثم لا جغرافيا يؤشّر إليها. ثمّة شامٌ مرة، ودمشق لها سلام. ثمّة نهر السين أيضا. ومرّة ثمّة سارق ثورة، أو محض سارق. ومراتٍ ومراتٍ ثمّة ليل وعتم، وأرواحٌ لأحباب غائبين. وثمّة بين القصائد رسوم لأجساد مبطوحةٍ أو متروكةٍ أو مهملة، وأخرى واقفة، وثمّة ناياتٌ ووجوهٌ، وعيونٌ تبحلق في غامضٍ لا دال عليه.
نجح سميح شقير الحالم بالحرية مغنيا. وفي "ولا يشبه النهر شيئا سواك.." نجح سميح شقير شاعرا.