"سنرجع يوماً إلى حيِّنا"
رحم الله محمد عابد الجابري، أخبرنا إن "قياس الغائب على الشاهد" واحدةٌ من طبائع العقل العربي. من دلائل مستجدّة على هذا مقالة صديقنا البحّاثة صقر أبو فخر "هارون هاشم رشيد .. ومقصلة الاستعارة والسطو" في "ضفة ثالثة" (6/8/2020). تنبش في طرائق "سطو" الأخوين رحباني على كلمات أغنياتٍ فلكلوريةٍ وقصائد شعرية، ثم "تقيس" على هذا أن أفعالهم هذه تتيح القول بنسبة 90% إنهما نسبا إليهما قصيدة "سنرجع يوما إلى حيِّنا" التي اشتهرت بأن فيروز غنّتها (أول مرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1956)، فيما هي للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، كما هو ذائعٌ، وكما نشر في تقارير ومقالات غزيرة، ثم في مرثياتٍ وفيرةٍ عن الرجل لمّا توفي في 27 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، على غير ما تدوّنه مصادر ووثائق (وأسطوانات)، تزجيها إلى الأخوين رحباني، كلماتٍ وتلحينا، وهو ما أكّده، بنسبةٍ مقنعةٍ، الكاتب الأعلم من كثيرين، فارس يواكيم، في مقالته في "العربي الجديد" (29/7/2020). وفعل الأمر نفسَه، في مقالةٍ تقصّت الأمر جيدا، الكاتب راشد عيسى، في "القدس العربي" (3/8/2020).
وكان المؤمّل من شيخنا في "البحبشة" في العتيق والجديد، صقر أبو فخر، أن تُخالف مقالتُه من ذهبوا إلى هذا بالردّ على الشواهد بالشواهد، بدلا من مسلك المناطقة الذي ذهب فيه، وبدلا من الوقوع في خطأ لا لزوم له، عندما نسب أغنية فيروز "راجعون" (1955) إلى هارون هاشم رشيد، فيما لا جلبة بشأن أنها من قصائد عاصي ومنصور رحباني. وربما أراد أغنية "جسر العودة" التي غنّتها فيروز في 1968، وشائع أنها لهارون هاشم رشيد، فيما هي منسوبةٌ أيضا للأخوين رحباني. والسبق في قضية "سنرجع يوما إلى حيِّنا" أحزره الكاتب المجدّ محمود الزيباوي، في مقالته في موقع المدن "من يسرق من؟" (26/11/2016)، لمّا كتب إنها، في أصلها، أغنيةٌ لبنانيةٌ عن عودة الغريب إلى بلده، ولا علاقة لرشيد بها، وأنها من كلمات الأخوين رحباني. وصحّ ما كتبه إن الشاعر الفلسطيني المعروف لم يضمّن هذه القصيدة أيا من مجموعاته العديدة، لكنه لم يُصب الحقيقة عندما كتب إن هاشم رشيد جعل القصيدة (المغنّاة في 1956!) في ديوانٍ له صدر في 2009 عنوانه "الصوت والصدى"، فالصحيح أن هذا الكتاب يضم مختاراتٍ للشاعر، أصدرته الهيئة العامة السورية للكتاب، بمناسبة احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية في دمشق، وهو يضم أيضا مسرحية شعرية لرشيد، والقصيدة التي أخذت عنوان الكتاب منشورة في ديوانٍ سابق. ولأنه ليس بين يدي نسخة من هذا الكتاب، ولأنه إذا صحّ أنه يضم "سنرجع يوما إلى حيِّنا"، فالمرجّح، إلى حد التأكيد، أن ذلك اجتهادٌ ممن جمعوا مادة الكتاب ونشروه، من باب تكريم الشاعر في احتفاليةٍ به.
أما وَتَري الذي أزيدُه هنا في هذا الطنبور، فموجزه أن المحسوم بنسبة 99% أن القصيدة، موضع الجدل، هي للرحبانييْن. وبعيدا عن "قياس الغائب على الشاهد"، وقريبا مما يسلكه المناطقة، فإنها أرفع لغةً من معجم هارون هاشم رشيد في بواكيره، لا قرابة بنائية ولغوية بينها وبين قصيدة "مع الغرباء" في ديوانه الأول "مع الغرباء" الصادر في القاهرة في 1954، والتي غنّتها فيروز بتلحين الأخويْن رحباني ولم ينسباها إليهما. وإلى هذا، لم يضمّن شاعرنا هذه القصيدة أيا من كتبه، وكذا مجلد أعماله عن دار العودة في بيروت، الصادر في 1981، ولا لاحقا في مجلدي "الأعمال الشعرية" اللذيْن اجتمع فيهما كل نتاجه، وصدرا عن دار مجدلاوي في عمّان، الأول في 777 صفحة في 2006، والثاني في 525 في 2008. وقد حدّثني الصديق الناقد محمد عبيد الله، أنه جاء في مقدمته المجلد الأول على "سنرجع يوما إلى حيِّنا"، منسوبةً إلى رشيد الذي اطّلع على المقدمة قبل نشرها، ولم يُجر تصحيحا أو يطلب حذفا، كما الأمر في كلمة الغلاف للشاعر عز الدين المناصرة. وخلت كذلك مختاراتٌ أصدرها بيت الشعر الفلسطيني في رام الله، بعنوان "الديوان" في 2015، من القصيدة التي يدرسها منسوبةً إليه تلاميذ صفوف ابتدائية في سورية وفلسطين. وفي سيرته "بحار بلا شطآن .."، وصدرت عن دار مجدلاوي، في جزئين (479 صفحة و290 صفحة)، عامي 2004 و2014، جاء الراحل على قصصٍ وحكاياتٍ عن قصائد له كثيرة، وعن غناء عديدين لها، ولم يأت على "سنرجع يوما إلى حينا".
أجاب شاعرُنا في مقابلةٍ أجراها معه الكاتب يحيى يخلف، وبثها تلفزيون فلسطين قبل سنوات، على أسئلةٍ كثيرةٍ باسترسال، غير أن إجابته على سؤالٍ عن قصة هذه القصيدة والأغنية، كانت غريبةً وشديدة الاقتضاب، إنه ليست هناك قصة. والعجيب أنه كثيرا ما تم تقديمُه في أمسيات شعرية له، في غير بلدٍ عربيٍّ، صاحبَ "سنرجع يوما إلى حيِّنا"، ولم يحدُث أنه عقّب أو صحّح أو نفى أو أكّد .. تُرى، هل استطاب إشاعةً حسنةً كهذه؟ هل ثمّة قطبةٌ مخفيةٌ في الأمر؟ .. ولكن ما بالنا ننشغل بأمرٍ كهذا؟ القصيدة، مسموعةً أغنيةً رحبانيةً فيروزية، بديعةٌ، ولتكن لمن تكون، أم إنها الرغبةُ بمناكفةٍ مع صقر أبو فخر وليس غير؟