سورية... تغيير أم جعجعة بلا طحن؟
"لم يعد الزمن السوري يتّسع لمزيدٍ من اللفّ والدوران، وتكرار الوعود بالمراجعة والتغيير وإعادة النظر، كما لم يعد المواطن السوري في وارد انتظار غودو الذي يجيء ليطعمه من جوع، ويؤمنه من خوف. وسواء أصبح حزب البعث في الواجهة أو في الخلفية، فانه لم يعد سوى حركة ميتة، سادت يوما ثم بادت، ولم تعد تملك ما يؤهلها كي تقوم من رقدة الموت". ... هكذا هو وضع سورية اليوم كما اختصره لي، في رسالةٍ لافتة، ناشط سوري معارض.
يضيف الناشط السوري القول إن الحراك الشعبي لم يتمكّن من إنضاج صيغة تؤدّي إلى حلٍّ ديمقراطي. ربما بسبب عدم قدرة الفصائل المعارضة على توحيد رؤاها ووجهات نظرها، وبسبب ارتهان معظمها لدول وقوى خارجية، إلا أن شعلة انتفاضة السويداء، بنسختها الجديدة في مارس/ آذار من العام الجاري، لا تزال باقية، وقد وضعت أمام من يهمّه الأمر شرط التغيير المطلوب بوضوح، "أن تقوم في دمشق دولة مدنية ديمقراطية من دون مرجعية طائفية أو حزبية أو عرقية"، أي إعادة سورية إلى عنفوانها الأول، لن يرضى السوريون بأقلّ من ذلك، كما لا يريدون أن يكونوا مثل ذلك الفقير الذي روى حكايته مرة الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، والذي عندما طلب صدقة قيل له تحلَّ بالصبر، والسوريون الذين باتوا يعيشون على صفيح ساخن وقد نفد صبُرهم، لا يريدون لأنفسهم هذا الموضع، ولا يطلبون صدقة من هذا الطرف أو ذاك، إنما يريدون أن يجعلوا نفاد الصبر محسوسا حتى لدى بعضٍ ممن اعتادوا النوم على وقع أحلام اليوتوبيا، أو العيش على خداع السياسة ومكرها.
وقد صار معروفا أن عملية "إعادة التموضع" التي يتحدّث عنها الإعلام الرسمي، والتي تقوم على أساس وضع الحزب في الواجهة من خلال إزاحة "الحرس القديم" وتطعيم هيئاته القيادية بعناصر شابة قيل إنها سوف تتكفل بضخ روح جديدة فيه تؤهله لقيادة مرحلة إصلاحات وتحولات، إن هذه العملية لا ينظر إليها الشارع بجدّية، إذ اعتاد النظام كلما أحاطت به الأزمات أن يجري تغييرات شكلية في بنيته لا تنعكس على مجمل الوضع المزري في الداخل، ولا على ثقة المجتمع الدولي به، كونه لا يسيطر عملياً سوى على أقلّ من نصف مساحة البلاد، مدعوماً من قوة تابعة للحرس الثوري الإيراني، ومن روسيا التي تقيم قاعدتيْن عسكريتين هناك، فيما تتقاسم السيطرة على النصف الباقي "الإدارة الذاتية" الكردية، المستندة إلى دعم أميركي، و"قوات سوريا الديمقراطية" التي تقع تحت سيطرتها حقول نفطية، و"هيئة تحرير الشام" السلفية، وهناك شريط حدودي تسيطر عليه قوات من الجيش التركي، إضافة إلى انتشار مجموعات من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ومن مليشيات إرهابية في أكثر من بقعة من البلاد. كما لا يمكن هنا تجاهل الوجود الإيراني المهيمن على القرار السوري، ... كل هذه التقاطعات التي رسمت بعضها قوى خارجية لا تسمح للمراقب أن يتحدّث عن "دولة مستقلة وذات سيادة"، على النحو الذي كانت عليه سورية قبل أن تحل بها لعنة الانقلابات العسكرية، وسيطرة الحزب الواحد، ثم حكم العائلة.
على السوريين الانتظار، قبل أن يكون بإمكانهم أن يتنفسوا الصعداء!
صحيحٌ أن هناك حالة اهتمام مستجدّ من قوى دولية فرضته توتّرات العنف القائمة في أوكرانيا والشرق الأوسط، وتصاعد مشكلة اللاجئين السوريين المؤثرة على أكثر من بلد، هناك أيضا محاولة لإعادة الحياة إلى قرار مجلس الأمن 2254 الذي تحدّث عن عملية "انتقال سياسي" وتسوية دائمة. وأيضا، مرّة أخرى، هناك إعلان إيطاليا عن إعادة علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق، مبادرة ربما تتبعها دول أوروبية أخرى، وانفتاح محسوب على دمشق من عواصم عربية. وهناك، في المقابل، عوامل سلبية، منها إصرار الولايات المتحدة على عدم رفع العقوبات قبل أن يكون هناك حل سياسي حقيقي ودائم، وانعدام الثقة من الأطراف المباشرة في إمكانية أن تفضي إجراءات النظام التي اتخذها أخيرا، على الصعيدين الحزبي والرسمي، إلى نتيجة إيجابية تساهم في بلورة حل، وهي الإجراءات التي لا تعدو أن تكون عملية "إعادة إنتاج" لما هو قائم، أو هي "جعجعة بلا طحن" لا يمكن لها أن تساهم في اختراق الأوضاع الراهنة وتفكيكها مقدّمة لتأسيس حالة جديدة واعدة.
يخلص الناشط السوري المعارض في رسالته إلى إبداء تشاؤمه من إمكانية حل الأزمة السورية في المدى المنظور، إلا إذا حدثت مفاجأة. ولذلك على السوريين الانتظار، قبل أن يكون بإمكانهم أن يتنفسوا الصعداء!