سورية... مائة عام من الفشل تكفي
إذا استطاع المرء أن يخرج برهة من المزاج السوري الراهن (أقصد الصراع والمماحكات وتبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات عما آل إليه وضع سورية اليوم)، ونظر إلى التاريخ السوري المعاصر، منذ انهيار الدولة العثمانية، لا بد أن يشعر بحجم الصدمة من مقدار الفشل الذي وقع فيه السوريون أكثر من قرن، لجهة الحفاظ على بلادهم موحّدة ومستقلة. بين عامي 1919 و1920، ومع بداية تبلور فكرة إنشاء دولة موحّدة تضم أرجاء البلاد السورية، الممتدّة من أضنة شمالاً وحتى رفح جنوباً، انعقد المؤتمر السوري العام، بمشاركة 107 مندوبين من أنحاء سورية الطبيعية، وأعلن في 8 مارس/ آذار 1920 قيام المملكة السورية، وتبنّى دستورها الأول. خلال عامين فقط، ضاع نصف أراضي هذه المملكة، إذ أنشأ الفرنسيون دولة لبنان الكبير عام 1920، واقتطع الإنكليز ما أصبح يُعرف بإمارة شرق الأردن (1921)، وصارت فلسطين خاضعة للانتداب البريطاني، الذي وعد اليهود بها وطناً قومياً عام 1917. كما خسرت سورية السناجق الشمالية (أضنة ومرعش وكلس وأورفا وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر) التي تنازلت عنها فرنسا لتركيا بموجب اتفاقية أنقرة (1921) وتم تضمينها في معاهدة لوزان (1923). وفي 1938 فقدت سورية جزءاً آخر من أراضيها، عندما تنازلت فرنسا لتركيا عن لواء إسكندرون (4800 كم مربع) ولتخسر سورية معه نحو 40% من ساحلها على المتوسط.
بعد الاستقلال، دخلت النخب السورية في صراعاتٍ مريرة، انقسم فيها السياسيون وضبّاط الجيش إلى كتل وتيارات مرتبطة خارجيا بهذه الدولة أو تلك (العراق، مصر، السعودية) فوقعت سلسلة انقلابات عسكرية، واستقوى السياسيون على بعضهم بضبّاط من الجيش مرتهنين بدورهم للخارج. وفي 1958 قرر السوريون بعد أن فشلوا في إدارة خلافاتهم التضحية بنظامهم الديمقراطي حديث النشأة، واستيراد قيادة عسكرية من الخارج، فقامت وحدة قصيرة مع مصر (1958-1961)، ما لبثت أن انهارت، لكن البديل لم يكن العودة إلى النظام الديمقراطي الذي كان قائماً قبل الوحدة، بل الدخول في نفق حكم عسكري جديد أسوأ من حكم المشير عبد الحكيم عامر. في الأثناء، وقعت حرب 1967 وخسر السوريون جزءاً آخر من بلادهم (الجولان)، فيما كان الضباط مشغولين بصراعاتهم على السلطة في دمشق.
لمدة تناهز نصف القرن تقريباً (حتى 2011)، أقام حكم "البعث" العسكري دولة أمنية فشلت في كل شيء تقريباً، في تحقيق التنمية المتوازنة، في إنتاج هوية وطنية سورية، في إنشاء دولة المواطنة والقانون، وحتى في إنجاز العدالة الاجتماعية، علماً أن الأخيرة كانت أبرز شعارات "البعث"، وعنوان حكمه عقوداً.
لا تنتهي القصة هنا، فما زال هناك إخفاق أكبر ينتظرنا. عندما قامت الثورة عام 2011، وقبل أن تُسفك دماءٌ كثيرة، لاحت فرصة حقيقية للشروع بمرحلة انتقالية بقيادة النظام تنتهي بدستور جديد وانتخابات حرّة تصل بنا إلى دولة المواطنة والحريات. ضاعت تلك الفرصة، لأن النظام ظنّ أن الأدوات القديمة ما زالت صالحة للتعامل مع مشكلاتٍ جديدة، وجيل جديد، وبيئة دولية وإقليمية مختلفة. وظنّت دوائر في المعارضة أن ساعة الحساب أزفت، وأنه بات ممكناً، في ظروف الربيع العربي وتوفر الدعم الخارجي، اقتلاع النظام "بكل أركانه ورموزه ...إلخ". وهكذا تحوّلت الثورة السلمية إلى حربٍ بشعة، أخرجت كل العنف الكامن في المجتمع، وكان العالم جاهزاً لتأجيجه بالمال والسلاح. بالنتيجة، تقسّمت سورية، وصارت فيها اليوم أربع سلطات أمر واقع مرتبطة كليّاً بالخارج، وغير قادرة على الاستمرار من دون دعمه، وتبدو محاولات إعادة توحيدها، بمرور الوقت، أصعب، فيما تجثُم على صدرها خمسة جيوش أجنبية.
أليس صادماً أن السوريين الذين كانوا يفاخرون بأنهم مهد الفكر القومي العربي إنما كانوا، في حقيقة الأمر، يتستّرون على انتماءاتهم المناطقية، والطائفية، والجهوية، والعشائرية الضيقة؟ أليس صادماً أن السوريين الذين كان هدفهم يوماً إنشاء دولة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج انتهوا إلى الفشل في الحفاظ على وحدة سورية (الصغيرة) وسيادتها واستقلالها؟ هل يوجد فشلٌ أعظم؟ نعم، إذا استسلمنا لأحقادنا التاريخية، وقدّمنا مصالحنا وحساباتنا الضيقة، وأضعنا فرصة أخيرة لإنقاذ ما تبقى من سورية.