سورية وغزّة في 2024
فيما تتركّز الأنظار، بشكل مبرّر بالمطلق، على العدوان الإسرائيلي المستمرّ من دون هوادة على غزّة، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وفيما يظلّ أكثر المراقبين "مهمومين" في البحث عن إجابة للسؤال الافتراضي المتّصل باحتمال توسّع دائرة الحرب، تشهد الساحة السورية تطوّرات مهمّة، لا يلفت انتباه كثيرين منها سوى تلك المتّصلة بالحرب في غزّة، من قبيل شنّ إسرائيل، مثلًا، هجمات، تزايدت وتيرتها في الفترة الأخيرة، تستهدف خصوصاً قياديين في الحرس الثوري الإيراني، أو بحزب الله اللبناني، في حين أن الساحة السورية تشهد، تحت حجابٍ من سُحب الدّخان التي ترتفع في غزّة، جملة تغييرات هامة تمسّ بنية النظام، ومؤسّساته، وآليات عمله، وتطرح أسئلة كثيرة بشأن توقيتها والغاية منها.
على مدى الشهور الثلاثة الماضية، أي في ذروة جلبة الحرب على غزّة، وفي غيابٍ ملفتٍ عنها، انطلقت عملية إعادة هيكلة واسعة طاولت أبرز مراكز قوة النظام ومؤسّساته. بدأت التغييرات بإعادة هيكلة مؤسّسة الرئاسة، حيث تم إلغاء منصب وزير شؤون رئاسة الجمهورية، وهو المنصب الذي يتولّى عادة نقل سياسات الرئاسة إلى بقية مؤسّسات الدولة، خصوصا مجلس الوزراء، ليُصار إلى ترجمتها وتنفيذها، وتمت الاستعاضة عنه بمنصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية، وهو منصب تقني - إداري يخلو من أي بعد سياسي. ورغم أنه يصعُب فهم الغاية من هذه الخطوة، وما إذا كانت مجرّد نقلة تنظيمية بحتة، إلا أنه يمكن قراءتها أيضاً في سياق توجّه إلى تعزيز دور رئاسة مجلس الوزراء وتفعيله، بمعنى أن الأمين العام للرئاسة سوف يتولّى مهمّة التنسيق، وليس إصدار التعليمات، لرئاسة الحكومة، كما كان الحال سابقاً.
بالتوازي مع التغييرات في مؤسسة الرئاسة، تم إطلاق مسار يهدف، على ما يبدو، إلى إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، حيث توالت في الفترة الأخيرة المراسيم والقرارات التي تصبّ في اتجاه إعادة بناء الجيش، وتحويله من جسم يعتمد على التجنيد الإلزامي إلى جسم احترافي يعتمد على المتطوعين أو المتعاقدين، مع توجّه إلى إلغاء خدمة الاحتياط أو تقليصها. ورغم أن أسباباً اقتصاديةً قد تكون الدافع الرئيس لهذه الخطوة، إلا أن إعادة هيكلة الجيش لطالما كانت أيضاً مدخلاً رئيساً لأي حل سياسي للأزمة في سورية. ينطبق الأمر نفسه على التغييرات التي طاولت الأجهزة الأمنية في الفترة الأخيرة، إذ جرى إلغاء أقسام كبرى في بعض أجهزة الأمن ودمج أقسام أخرى. وتذهب تقديراتٌ إلى أن الهدف النهائي هو إنشاء ثلاثة أجهزة أمنية كبرى (داخلي - خارجي - وجهاز أمن عسكري يختصّ بشؤون الجيش). ومن غير الواضح ما إذا كانت عملية الهيكلة سوف تتضمّن كفّ يد أجهزة الأمن عن التدخّل في حياة المواطنين، وفرض نوع من الوصاية على مؤسّسات الدولة، هذا سؤال يبقى رهن الوقت للإجابة عنه.
إعادة هيكلة مؤسّسات النظام تطوّر لا شك مهم، لكن الأهم معرفة ما إذا كانت تلك السياسة أحادية نابعة من احتياجات ذاتية، اقتصادية، وسياسية وأمنية، يتطلبها وضع النظام بعد 13 عاماً من الأزمة التي عصفت به، أضعفت قبضته، واستنزفت موارده، البشرية والاقتصادية، ودمّرت شرعيته السياسية، أم هي جزء من تفاهمات عربية - إقليمية - دولية مرتبطة بالحل السياسي المنشود للقضية السورية، والمقترن بسلة حوافز أقرّها اجتماع عمّان الوزاري العربي في الأول من مايو/ أيار الماضي؟
يمكن أن نسترشد في محاولة الإجابة عن هذا السؤال بالتطوّرات التي تشهدها، أو يرجّح أن تشهدها، علاقات النظام الخارجية، من قبيل ما يقال عن تنسيق مع النظام في عمليات القصف (العشوائي) التي يقوم بها سلاح الجو الأردني في مناطق جنوب سورية لاستهداف عمليات تهريب المخدّرات والسلاح، والتوجّه نحو استئناف التواصل العربي مع النظام، واستئناف وشيك للمفاوضات مع تركيا، وأخيراً ما نشرته "المونيتور" عن خطّة أميركية لإنشاء "شراكة" بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والنظام لمحاربة داعش، استباقاً لانسحاب محتمل للقوات الأميركية من مناطق شرق الفرات تفرضه أجواء الانتخابات الرئاسية الأميركية، بفعل الهجمات التي تتعرّض لها بسبب موقف واشنطن من حرب غزّة. من الصعب القفز إلى استنتاجات كبرى في هذه المرحلة، لكن من المهم إبقاء عين على غزّة وثانية على دمشق، فمصير المنطقة بات معلّقاً بما يجري بين المدينتين.