سورية ووضعها اللوجستي
يسألني الأصدقاء المصريون وآخرون عرب عن وضع الناس في سورية بعد الزلزال، وعن آلية إيصال المساعدات إلى الداخل السوري والناس الأكثر تضرّرا من الزلزال. وغالبا ما أُصاب بالعجز عن شرح الوضع هناك خارج التفاصيل العامة التي يعرفها الجميع، أو بالأصح سيبدو شرحي الأمر بالغ السوريالية للسائلين، خصوصا أن معظمهم ما زال يعتقد أنه على الأقل "تمت حماية سورية من التقسيم" بعد الحرب المدمّرة التي ألحقت بالثورة. بعض الأصدقاء العرب، المصريين خصوصا، لا يعرفون شيئا عن الواقع السوري وتعقيداته. سورية بالنسبة لهم هي دمشق ومحافظات أخرى يعرفون منها أصدقاء شخصيين أو أصدقاء من العالم الافتراضي؛ وما لا يعرفه كثر منهم أن سورية قد تقسّمت فعلا، ولديها حكومات متعدّدة ومتصارعة. وظهر هذا واضحا جدا، لنا نحن السوريين على الأقل، إثر الزلزال وانطلاق عمليات الإغاثة والإنقاذ بكل تعقيداتها وارتباطها بالوضع اللوجيستي لسورية، وهو ما جعل من هذه العلميات متعثرة ومتأخّرة، ما زاد في عدد الضحايا والمنكوبين كثيرا.
والحال إن عملية شرح التقسيمات السورية معقّدة جدا، فمحافظة حلب وريفها مثلا تتبع ثلاث حكومات: حكومة النظام السوري، والحكومة المؤقتة التابعة مباشرة لتركيا، وحكومة الإنقاذ التابعة للجولاني وجبهة النصرة، وثمة مناطق في ريف حلب الشرقي وجزء من الجنوبي متنازع عليها من الجميع؛ أما إدلب وريفها فهي بين الحكومتين المؤقتة والإنقاذ، بينما تقع مناطق الحكومة الذاتية (قوات سوريا الديمقراطية) في الشرق السوري (الرقّة والحسكة وريف دير الزور) بحماية أميركية وفرنسية، في الوقت الذي تتبع مدينة دير الزور إلى حكومة النظام بحماية إيرانية مباشرة، مثل درعا وريف سهل حوران في الجنوب التابعة لحكومة النظام بحماية روسية مباشرة، وكذلك الساحل السوري الذي تسيطر عليه روسيا بشكل كامل، بينما المربعات الأمنية الإيرانية تنتشر في العاصمة دمشق وحلب والوسط السوري المتاخم لمنطقة البقاع اللبنانية التابعة لحزب الله.
ضرب الزلزال أكثر المناطق تعقيدا في سورية من حيث وضعها اللوجيستي، لم يفرّق في شدّته بين منطقة وأخرى، ضحاياه من كل تلك المناطق المقسّمة بحواجز ومربعات أمنية مختلفة الولاءات، فسكّان الشمالين، السوري والغربي، هم من معظم محافظات سورية الذين جرى تهجيرهم إليها إثر عمليات التسوية التي رعتها روسيا، مضافا إليهم السكان الأصليون لتلك المناطق من عرب وكرد سوريين، وهذا أيضا حال السوريين في تركيا، حيث استقرّوا فيها قادمين (هاربين من الموت) من مختلف المحافظات السورية. وهو ما جعل ضحايا الزلزال ينتمون إلى مختلف المناطق السورية، وهو أيضا ما جعل "فيسبوك" السوري منذ عشرة أيام بمثابة صفحة نعوات، الناعون فيها هم كل السوريين والمنعوون هم كل السوريين أيضا.
سورية مقسّمة تماما، هذا أمر ينبغي لأصدقائنا العرب معرفته وفهمه، كي يتوقفوا عن تكرار الكلام عن إن الجيش السوري حمى سورية من التقسيم (الجيش السوري كان، للأسف، هو البيدق الرئيسي في الحرب الأهلية السورية وفي كل ما حدث منذ 2011 ويتحمّل قادته مسؤولية تحويل عناصره إلى قتلة لأخوتهم السوريين أو قتلى على يد إخوتهم السوريين). رغم أن حديثا كهذا ليس وقته الآن، لكن ارتفاع أعداد الضحايا السوريين وفشل عمليات الإنقاذ وتعثرها هو نتيجة كل ما حدث خلال السنوات السابقة، لا يمكن لأحد تجميل الوضع بالقول إن هؤلاء ضحايا الزلزال فقط، بينما هم، في الحقيقة وأولا، ضحايا الإجرام الممنهج الذي وقع عليهم قبلا.
سورية مقسّمة سواء لوجستيا، على الأرض وفي مناطق النفوذ والسيطرة، أو في مصادرة قراراتها المصيرية، حيث تتحكّم الدول التي تحمي الحكومات السورية المتعدّدة في أي قرار يخصّ الشأن السوري وفي المفاوضات وفي التخطيط لإعادة الإعمار وفي مصير ملايين السوريين ومصير حاضرهم ومستقبلهم. بشار الأسد، الذي يستغل وحلفاؤه كارثة الزلزال لإعادة تدويره، لا يملك من القرار السوري مما هو خارج جغرافية القصر القابع فيه شيئا، وهو ما بات واضحا ومدركا للجميع إلا لمدمني الإنكار والعماء الذين ما زالوا يصرّون على أن النظام السوري، الذي لا يجرؤ على الاعتراض على استباحة إسرائيل المستمرّة للسماء والأرض السوريتين، بسبب التنسيق بين الروس وإسرائيل على هذا، هو نظام وطني ويحمي سورية من التقسيم، وقادر على حماية شعبه من نتائج الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية.