سيد قطب .. "الإصدار الكولومبي"
أما قبل، فإنني أحب سيد قطب، وأحترمه، وأقدّر تجربته، وأتعاطف معها في سياقاتها الفكرية والسياسية. ولا يعني ذلك الاتفاق أو الاختلاف "الكلي" معها، إنما القطع مع شيطنتها، كما في خطابات كثيرين ممن أحترمهم وأقدّرهم، والذين يصطفّون، ربما من دون قصد، مع خطابات الدولة، المسيسة، لمشروع قطب، في ضوء معركتها مع الإسلاميين. قطب "ناقد" بالأساس، تلميذ العقاد، وابن مدرسة النقد الجديد، متميّز ومتطرّف في آن، يرى شاعرية العقاد "الصخرية" أعلى من شاعرية شوقي والمتنبي معاً، هذه هي آراؤه الفنية، في مرحلته العلمانية، فما بالك به محافظاً؟
الجاهلية، عند صاحب "مهمة الشاعر في الحياة" مفهوم ثقافي، وصف به النبي أحد أصحابه، حين عاير بلال بن رباح بسواد لونه "إنّك امرؤٌ فيك جاهلية" لم يخطر ببال قطب، في ما أزعم، تكفير المجتمعات، أو استحلال دمائها. لم يقل ذلك، ولم يكتبه، لكنّه كان "حدّياً"، و"أحادياً" بالقدر الذي يسمح باستنتاج ذلك، فتحوّل عنف الخطاب إلى خطاب العنف، وكانت مأساة السلفية الجهادية وامتداداتها من نبيل البرعي ورفاقه، في ستينيات القرن الماضي، إلى "داعش" أيامنا الغبراء.
من هنا يمكننا فهم قطب، وفي الوقت نفسه "الظاهرة القطبية" التي تجاوزت الكاتب ومراميه إلى مساراتٍ وتشعباتٍ يصعب حصرها. كما يصعب، ولا يصح، وصمها، في المطلق. في كتابه "الدولة المستحيلة" يبدو وائل حلاق أكاديمياً غربياً، في مبانيه، قُطبياً، بدرجةٍ كبيرة، في معانيه. لا يرى "دولة الإسلاميين" ممكنة، لكنّه يبشّر بأخرى، لا تختلف عنها في القطع العدواني مع منجز الدولة الحديثة، والتمايز، بالكلية عنه؛ "دولة مقطوعة من شجرة". يبدو سيد قطب من وراء السطور، لكن لا يبدو أنّ كاتب السطور، وهو الذي تعلّم من كتب حلاق، قادر على الاعتراف بذلك. في حينها، أحد ضيوف برنامج "قراءة ثانية"، (على شاشة تلفزيون العربي)، وهو عبد الجبار الرفاعي، يشاركني الفكرة، ويشجّعني على كتابتها، أنساها، فيعود برنامج "المقابلة" للإعلامي المتميز علي الظفيري، على شاشة "الجزيرة"، ويذكّرني بها. تبدو صياغات حلاق مع الظفيري أكثر وضوحاً، فالحداثة مفلسة، والدولة الحديثة مجرمة، والحضارة الغربية ليست متقدّمة، والولايات المتحدة وجامعة كولومبيا وكلّ ما حمل حلاق "الأكاديمي" إلى قرّائه لا يستحق الإشادة، بأي مستوى.
ما الفارق بين وائل حلاق وسيد قطب؟ أوجه السؤال إلى قارئين متناقضين، أحدهما يرفض قطب، ويراه تكفيرياً، ويرحّب بحلاق، لأسبابٍ قد يرفضها حلاق نفسه، والآخر يرحّب بقطب، المسلم، ويرفض كلّ ما قدّمه حلاق، عن الإسلام وبه وله، لمجرّد كونه مسيحياً، ومع تهافت الحجّة الأخيرة، وسذاجتها، حدّ الطفولية، وجدت من يتبناها ويروّجها من مهاويس "السوشال ميديا"... أعود إلى حلاق وأقول إنّ المشكل في خطابات "الأستاذ" انطلاقها من البعد الأحادي نفسه عند سيد قطب، والذي قد يؤول إلى النتيجة نفسها، وهي توفير "تنظيرة" جادّة، وأرضية بحثيةٍ وأكاديميةٍ لخطابات شيطنة الآخر، ومن ثم استباحته، ناهيك عن إهدار قيمة التفاعل الحضاري معه. تبدو علاقتنا بالغرب في خطابات قطب/ حلاق بين قوسي "إما أو" التغريب والانسحاق أو النرجسية الهوياتية والعداوة، الولاء للغرب أو البراء منه، ولا شيء بينهما. لا يعني ذلك (وأتعمد هنا التكرار) رفض حلاق ومشروعه، وكتبه المهمة، وفي مقدمتها "الشريعة"، وهو خلاصة مشروعه، لكنّه يعني الانتباه إلى عنصر مهم في تجربة "جيل الأساتذة"، وهو حضور الغرب ببعده "الكولونيالي" فحسب، هكذا أخبرني يوماً طارق البشري، رحمه الله، أنه من جيلٍ رأى "العسكري الإنكليزي" يجوب شوارع القاهرة وحواريها، ممسكاً بسلاحه، فكان "الاستقلال" هو مشروعه الأول وهاجسه الدائم، ما زال البعد نفسه، حاضراً بنسبةٍ ما، وما زلنا، بدورنا، نبحث عن ذواتنا واستقلالنا. لكن وفق شروط، نريدها أنضج، فالغرب ليس شرّاً محضاً، والشرق ليس خيراً محضاً، والتواصل ممكن، وواجب. (بالمناسبة: لفت نظري في حلقة الجزيرة "جماليات الحداثة" في لوحات وائل حلاق، والتي رسمها بنفسه، كما قال علي الظفيري).