سيرة العنف
يصدمني ما تقدّمه قناة ناشيونال جيوغرافيك عن الحياة البريّة وسلوك الحيوانات، وطرقها في الحفاظ على أنواعها، والآليات التي تتّبعها الحيوانات اللاحمة للانقضاض على فرائسها واستسلام الفرائس لمصائرها عند لحظة معيّنة؛ كيف ينقضّ تمساح يتسحّب من الماءِ بهدوءٍ على فهدٍ يشرب الماء من دون أن يتمكّن من الهرب، وهو أسرع الكائنات تقريباً، ثم ينقاد إلى قدره في عمق البحيرة كوجبة غارقة للتمساح الجائع. كيف تتمكن الذئاب من تحدّي الأسود الضخمة (ملوك الغابات)، وكيف تتجمّع لتفاوضها على الطرائد، وتنتصر عليها، وتفوز بالوجبة الدسمة. كيف يصطاد نمرٌ صغير الحجم زرافة هائلة الطول ويجرّها إلى مجتمعه لتكون وجبتهم اللذيذة. كيف يهبط الصقر من السماء لالتقاطِ فريسة تفوقه حجماً، ثمّ يحلّق وهو يحملها. تصدمني فكرة الافتراس: الانتظار بهدوء وترقب الفريسة المحتملة، ثم الاقتراب غير المحسوس، ثم الانقضاض والالتهام.
يبدو عالم الحيوانات متوّحشاً وعنيفاً، وقائماً على فكرة البقاء للأقوى، فأي قوي في البريّة هناك، وفي لحظة ما، هناك من هو أكثر قوة منه، والصائد الأكبر للفرائس ثمّة من يتصيّده ويفترسه في لحظة ما. قد يكون في هذا بعض العدل، لمن يحبّ أن يراه هكذا، لكنها عدالة مُخيفة لا تُوحي بالأمان وتجعل من عالم البريّة، بالنسبة لي على الأقل، مثيرًا للرعب، لولا أنّ في هذا العالم، من جهة أخرى، تفاصيل في منتهى الرقة، كيف يجتمع قطيع الظباء لإنقاذِ واحد منهم يتعرّض للافتراس، أو كيف تحمي اللبؤة صغارها بكلِّ ما أوتيت من قوة، أو كيف يلتزم ذكر الذئب بقرينة واحدة طيلة حياته، وحين تموت يكادُ يموت عليها من الحزن، ولا يقترب من غيرها، أو كيف يتوقف الفيل الضخم عن الحركة حتى في لحظات الخطر، إن شعر بأنّ حيواناً صغيراً يحاول الاحتماء به. تلك الظواهر وما يشبهها هي الوجه الآخر لعالم البريّة، الغامض، والمدهش، والصادم، في الوقت نفسه.
غريزة البقاء هي ما يدفع الحيوانات إلى كلِّ بعضها بعضاً، الجوع والخطر فقط هما الدافع الوحيد للحيوانات للقيام بالعنف الذي نراه منها، وحين تشبع هي وصغارها، أو حين تشعر بالأمان، وبالحرية، لا تتفعل لديها رغبة الافتراس؛ نادراً ما تقترب ذكور الحيوانات من الإناث الصغيرة التي لم تصل بعد إلى سن التزاوج، لا تتحرّش الذكور بالإناث، وإن اقترب الذكر من أنثى غير راغبة تُبعده عنها، ويبتعد بهدوء، وحده الدلفين (أكثر الحيوانات لطفاً) من يتحرّش بالأنثى عن غير رغبتها. تخيّلوا؟
يفعل البشري (الحيوان المتطوّر والعاقل) كلّ ما سبق دون أن يكون وراء أفعاله سبب مهم، أقصد أنّ البشري قد يقتل للمتعة أحياناً، لا لمجرّد الدفاع عن النفس ضدَّ الخطر أو الجوع، قد يقتل بهدف إظهار القوة والسيطرة، قد يقتل بقصد الطمع (صفة بشرية محضة)، قد يقتل للتسلية، أو لاختلاف الرأي، أو تحقيقاً لرغبة آخرين، أو بهدف السرقة (بدءاً من سرقة الطعام، وحتى الأرض والتاريخ)، قد يقتل لتجريبِ أنواعٍ جديدة من الأسلحة. البشري وحده من يمثّل بالجثة بعد قتل صاحبها، كما لو أنّه يعوّض بذلك عن تهذيبه في حقبته الحيوانية، كما لو أنّه يعلن تمايزه عن جنسه الأوّل بهذا التشفّي في القتل؛ البشري يغتصب الضعفاء (أطفال، ونساء، ورضّع، وذكور تحت سيطرته) لا بقصد التزاوج والحفاظ على النوع، بل ليعوّض مجدّداً عن ضعفه في حقبته الحيوانية، كما لو أنّه يعلن أنّه الملك المسيطر في الغابة البشرية؛ الفرد البشري يمارس من العنف أضعاف ما تمارسه قبيلة كاملة من نوعٍ من الأنواع البرية.
ولكي تستطيع الإنسانية الاستيعاب، اخترعَ العقل البشري أساطير يحمّلها أسباب العنف المريع داخل النفس البشرية، فاخترع سيرة المستذئبين، واخترع سيرة مصاصي الدماء، كما لو أنّه يُحيل كلُّ هذا العنف الذي يمارسه البشر إلى نشأته الأولى في الكوكب، إلى مرحلة ما قبل التطوّر، واخترع قبلها أسطورة الخلق والتفاحة المحرّمة وهابيل وقابيل وإبليس، لمن يرفضون التصديق أنّ البشري منحدر من سلالة حيوانية؛ اخترع العقل البشري مئات القصص والسير والأديان ليتمكّن من تبريرِ عنفه، ووضعه في سياقاتٍ خارجة عنه؛ لكن الحقيقة هي أنّ العنف فطرة في البشري، تطوّرت مع تطوّره في المرحلة الحيوانية، وتزداد وضوحاً وقوّة مع ازدياد تطوّره العقلي، العنف مرتبط بالعقل.