سيرة الموت السوري
سوف أستعير عنوان قصيدة محمود درويش المهداة إلى الشاعر الكردي السوري سليم بركات "ليس للكردي إلا الريح"، وأعمّمها على السوريين جميعا من كل إثنياتهم ومذاهبهم وأهوائهم وانحيازاتهم: ليس للسوري سوى الريح، أينما كان وحيثما حلّ وبقي، لم يبق له وطن يحميه، لم تعد سورية وطنا لمن بقي فيها، الوطن نموذج مختلف عما هي عليه هذه السوريا البائسة التي يموت أبناؤها وهم هاربون منها، ويموتون قهرا وهم باقون فيها، ويموتون كمدا وحزنا وهم يعيشون خارجها. لا سعادة في الموت حتما، لكن أن تموت وحيدا لا يعرف بك أحد، ولا يودّعك سوى القلة، وربما تدفن في أرض غريبة ومقبرة مخصّصة للمجهولين، أو تموت وأنت هاربٌ لتبحث عن الحياة، أو تموت لأن لا شفاء من قهرك سوى بالموت، فهو أكثر أنواع الموت حزنا.
الموتُ واحدٌ أينما كنت، هذا مؤكّد، لكن الموت من القهر والوحدة هو الأكثر قسوة، ذلك أن للقهر مفعول السم البطيء، وحدَك تشعُر به، وحدك تنتبه كيف يأكل من جسدك وروحك بدأب هادئ، لن ينتبه الآخرون إلي روحك وهي تنطفئ شيئاً فشيئاً، وحدك تعرف ما يحدُث لك، لكنك لن تتكلم، إذ لن يصدّقك أحد إن قلت أنك ستموت قريبا من شدّة القهر أو من فرط الوحدة "لا أحد يموت من الوحدة" سيقول لك الآخرون، لكنك أنت السوري تعرف جيدا أن القهر قاتل وأن الوحدة قاتلة وأن الوحشة مثلهما، فأبناء بلدك يموتون منها يوميا، يقتلهم القهر، يفتك بأرواحهم وأجسادهم أينما كانوا.
تقرأ أخبار الموت السوري وتسمعها باستحياء هذه الأيام، ذلك أن طوفان الموت الفلسطيني اليومي في غزّة يحيل كل حدث أمامه إلى حدث تافه، ليس لفائض الموت فقط، بل أيضاً لفائض خيانة الأنظمة العربية، وتتساءل عن السبب الذي يجعل هذه الأنظمة فاجرة في خيانتها، فلا تجد جوابا شافيا سوى بديهيات قديمة، لكنها لا تكفي لشرح ما يحدُث. ثم تتذكّر أن هذه الأنظمة نفسها صمتت عشر سنوات عن الموت السوري اليومي، وها هي اليوم تبدأ برفع ما كان تحت الطاولة لتضعه في منتصفها تماما، في مركز الضوء، وكأن كل ما حدث للسوريين لم يكن سوى مزحة ثقيلة قليلا. لكن لماذا العجب، ها هي الأنظمة نفسها تعيد السيرة نفسها مع موت الفلسطينيين، بقلة حياء أكثر، ذلك أنها تعرّت تماما خلال العقد الماضي، كما لو أن الربيع العربي حدث ليكشف ما كان متواريا من فجور.
تقرأ على وسائل التواصل في هذه الأثناء خبرا هامشيا عن غرق مركبٍ في البحر المتوسط يضم عشرات السوريين الهاربين من سورية بحثا عن بلاد يمكن العيش فيها، لم ينجُ منهم أحد. تقرأ أيضا خبرا عن العثور على جثتي طفلين قرب حاوية زبالة في وسط دمشق، يقال ماتا من الجوع؛ تقرأ خبراً عن لاجئ باع أطفاله الخمسة وانتحر؛ تقرأ عن شباب في مقتبل أعمارهم ماتوا وحيدين في منافٍ بعيدة باردة، بعضهم مات بتوقف القلب وبعضهم مات انتحارا وبعضهم بجرعة إدمان زائدة. يُخبرك صديق بموت صديق مشترك لكما في بيته في اللاذقية: "مات منذ عشرة أيام ولم يعرف به أحد". تنتحر صديقة أخرى بجرعة كبيرة من حبوب النوم، يموت عشرات السوريين بقصف لقوات النظام علي الجنوب والشمال؛ يموت العشرات أيضا من أكراد سورية بقصف تركي، ومن عرب سورية بقصف أميركي وروسي؛ يموت أبرياء بقصف إسرائيلي يستهدف قادة إيرانيين يختبئون بين المدنيين السوريين من دون أي تأنيب ضمير؛ يموت عساكر سوريون يؤدّون "خدمة العلم"، في معارك جانبية مع إخوتهم السوريين. يموت سوريون، حتى اللحظة، في المعتقلات السورية تحت التعذيب. يموت السوريون في كل مكان ميتاتٍ مرعبة، لكنهم صاروا يموتون فرادى، لا يرافقهم سوى تراكم القهر والحزن واليأس بعد عقد من الموت الجماعي الذي لم يترُك في الضمير الرسمي العربي والعالمي سوى المزيد من التجبّر والعماء.
"ليس للسوري إلا الريح"، وإلا العجز واليأس وهو يتابع مشاهد جماعيةً للموت في غزّة، ويتذكّر ما حلّ به ثم يحتضن قهره الذي يفتك سمُّه بروحه منذ سنوات، ويموت وحيدا وغريبا، ولا يبقى من سيرته سوى ما تحمله الريح معها وتذروه في طريقها كما تذري الرمال.