شادي عبد السلام خائفاً من الغباء
المخرج شادي عبد السلام ابن "نزلة شادي"، بمحافظة المنيا أصولا وعائلة عريقة، وابن الإسكندرية شبابا وثقافة وتفتّحا، كان يخاف جدّا من قدوم المسؤول الغبي، وخاصة لو أصبح المسؤول من أهل الحل والعقد وهدم الجسور والقناطر والفنارات ومحطات القطارات الأثرية القديمة، فالتاريخ الآن لم يعد يشغل أي مسؤول ولكن "المهم الفلوس" للأسف، أو بناء ناطحات سحاب ولو حتى في العلمين، أو بناء السجون على أحدث صيحةٍ وتقنية وتأمين بأحدث تكنولوجيا الرصد والمراقبة.
شادي صاحب فيلم "المومياء"، وصاحب مشروع فيلم "أخناتون" وتصميمه الملابس وأفلامه القصيرة. كان شادي عبد السلام كلما رأى المذيع، إسماعيل بهاء الدين، حينما كان يعمل إسماعيل بالإذاعة، وهو ابن المنيا أيضا "قرية الأخصاص"، يسأله: "هل جاء أحد يا إسماعيل إلى المنيا وهدم محطّة قطاراتها القديمة؟"، كان إسماعيل يندهش من اهتمام شادي بمحطة قديمة بناها الإنكليز بالطوب الأحمر القديم وسلالمها من الحديد القديم المشغول منذ قرن ونصف القرن تقريبا، كان إسماعيل في كل مرّة يحاول أن يبتسم ويردّ بمودّة على سؤال شادي الدائم عن المحطة: لا والله يا أستاذ شادي، لم يأت بعد ذلك الغبي. .. فيبتسم شادي في ارتياح ويسكت، حتى ينتهي لقاء إسماعيل معه في مكتبه.
كنا نحن طلبة جامعة المنيا وطالباتها من مراكز المنيا وقراها والمحافظات الأخرى في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حتى بدايات الثمانينيات. تمثل لنا محطة المنيا القديمة جزءا حميما من ذاكرتنا العاطفية وفرح دخول الجامعة بعدما فارقنا قرانا ونجوعنا وكفورنا إلى "البندر"، ورؤية المدينة الأكثر اتساعا، والفرح بتقارب الطالب والطالبة، أو التحدّث إليها، ولو حتى بخجل، أو التحدّث إليها مباشرة في "القطار القشّاش"، أو أسعد أحدنا الحظ واكتمل، وتم اللقاء على خوف وهواجس في بوفيه محطة القطار أو صعدنا درج السلالم العالية معا وتناولنا الخطابات الغرامية خلسةً في القطارات المزدحمة في ما بعد في غفلة من العيون، وصرنا سعداء طوال الليل برائحة الكشاكيل التي صارت في حوزتنا، منهن، بحجّة نقل المحاضرات، رغم أننا لا كنا ننقل ولا يحزنون.
كانت "مساكن الدرّيسة" على يمين محطة المنيا وشمالها تبدو صغيرة وواطئة وقديمة، ولكن فيها مسحة ما من جمال وبساطة، علاوة على بساطة ساكنيها وأبوابها وشبابيكها، إلا أنه كانت هناك نخلة أو شجرة توت تظلّل البيوت أو تكعيبة عنب تمتد من البيت الأصلي، إلى بيت أو بيتين آخرين. كان المشهد يبدو جميلا، وخصوصا في بدايات الصيف وأواخر الشتاء في نهاية مارس/ آذار. وخروج وريقات أشجار العنب من منابتها، ونحن هناك نحدّق من بعيد في ملابس مشاريع حبيباتنا بعدما صارت الملابس خفيفةً وأكثر رقّة. بيوت بسيطة تضمّ في جنباتها حكايات لعمال بسطاء جاؤوا من الدلتا والصعيد منذ أكثر من قرن بكثير.
قبل سنوات قليلة، كنت أنظر إلى شمال المحطة، وجدتُ أن أغلب تلك البيوت جرى هدمها، وقلة من بقيّة الساكنين تتحايل على الزمان بعد الهدم، وتقيم كشكا للسجائر أو مقهى بسيطا للرزق أو زاوية متهالكة لنفخ إطارات السيارات الداخلية، وإن بقيت ملامح بقيّة البيوت صامدة بعدما طالها الإهمال، أو الهدم الجزئي الذي أربك المشهد تماما وجعلها كتلك القرى التي أصابتها لعنة الحرب والقنابل، عجزت عن الفهم، إلا أنني لم أتابع، حتى رأيتُ الصحافي عادل حمودة بعد انقلاب 2013 بشهور، يلفت نظر الدولة والنظام إلى أن هناك "كنزا" مدفونا حول سكك حديد مصر كافة وعقارات مهولة جدا اسمها "مساكن الدرّيسة"، وأنه يتقدّم بمقترحٍ للحكومة لتحويل تلك الأراضي، إلى محلات للبقالة بأكبر الإيجارات، علاوة على "سوبرماركت" في كل محطّة وفنادق بسيطة عديدة للسياح والركّاب بطول البلاد وعرضها. أما القيمة العقارية لو وجّهت الدولة جهودها لبناء الأبراج وغيرها فحتما ستدرّ على الدولة المليارات.
بالأمس فقط، كنت بمدينة المنيا، ونظرت إلى "مساكن الدرّيسة"، التي كانت يمين المحطة، فوجدت مجزرة للنخيل والأشجار وهدم أغلب المنازل، حتى الأبواب والشبابيك، الغريب أنه هناك كانت ثلاث شجرات من العنب، وكأنها تعاند الهدم وسط أكوام الحجارة والشبابيك القديمة المرصوصة فوق بعضها ومجموعة من الكلاب تنام تحت ظل الشجر.
كان إسماعيل قد عاد في إجازة إلى مصر، منذ سنوات أيضا، وهو يعمل مترجما في الأمم المتحدة بعدما ترك الإذاعة، وتوجّه إلى قريته، الأخصاص، فرأى محطّة المنيا قد جرى هدمها تماما قبل البدء بسنواتٍ من هدم "مساكن الدرّيسة"، فاتصل بمكتب الراحل شادي عبد السلام كي يذكر له الخبر المؤسف وأن الغبي قد أتى، فردّ عليه شخص بالمكتب: "البقيّة في حياتك". .. الغريب أن شادي كان يدعو الله في آخر لقاء مع إسماعيل: "أتمنى يا إسماعيل إن جاء هذا الغبي، ألا أكون موجودا".