شبه دولة يوليو
"شبه دولة" هو التعبير الأكثر دقّة في خطابات الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولكن لماذا؟ لماذا شبه دولة بعد أكثر من 70 سنة من الحكم "الوطني"؟ لا دولة "حديثة" من دون ديمقراطية وعلمانية ومواطنة. لا يتعلق الأمر بقوة الدولة أو ضعفها، استقلالها أو تبعيتها، ثرائها أو فقرها، نجاحها أو فشلها، إنما بشروط تحقّقها أولا، كما لا تتعلق هذه الشروط "الضرورية" بالموقف الأيديولوجي من الديمقراطية والعلمانية والمواطنة، سلبًا أو إيجابًا، بل بالموقف من الدولة "الحديثة" نفسها، فالديمقراطية ليست شرط التقدّم، كما يروّج كثيرون، من دون دراسة تجارب التحوّل الديمقراطي، والوقوف على موقع الديمقراطية (القيم والآليات) من التقدّم والتنمية وتحقيق طفرة، كما أن العلمانية، بدورها، ليست شرطا لازما للتقدّم، إنما هما (معهما المواطنة) شروط تحقق الدولة "الحديثة"، (أحد أهم شروط التقدم) بصيغتها الحالية، كما أبدعها منظّروها، وشكلتها مخاضاتها وتجاربها. وإلى أن نطوّر نموذجا آخر أكثر فاعلية، فإن غياب أحد الشروط الثلاثة، أو غيابها كلها، كما هو حال الدولة المصرية منذ نشأتها، فنحن أمام شبه دولة، كما أننا أمام جمهورية رعب، تضع سلطاتٍ مطلقة ودائمة في يد فردٍ واحد، فوق المساءلة، وغير قابل للتغيير، ويختزل في شخصه، وحده، مفاهيم الدولة والوطن والقانون، الأمر الذي يصنع، في أفضل الأحوال، "طاغية" إن لم يكن مجنونا.
جاءت دولة يوليو 1952، بعد حريق القاهرة، والسلطة في مصر ملقاه في الشوارع، لا تجد من يحملها، أو ينقذها من أقدام العابرين التي تدوسُها بالأحذية، فاستعاد عساكر يوليو بعض الهيبة والأمان وما تواطأنا عقودا على تسميته "استقرارا". وإذا حاولنا، لمصلحتنا، أن نتجاوز ظلال دولة 3 يوليو 2013 في تقييمنا 23 يوليو 1952، فإنه لا يسعنا إلا أن نعترف أن دولة جمال عبد الناصر كانت صاحبة مشروع حقيقي، مشروع استقلال وتنمية على المستويات كافة، وأن عبد الناصر، على علاته، كان زعيما حقيقيا، وصاحب مُنجز، ومشروعات "عظيمة" بمعايير عصرها، وامتدادا لخط نهضة فكرية وثقافية وفنية، بدأت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لم يتنكّر لها، كما فعل مع تراث الحركة الوطنية المصرية، بل استثمر فيها وزادها. وكان من الممكن أن يؤسّس عبد الناصر دولة "حديثة"، وقوية، تستمر من بعده، لكن ذلك لم يحدُث، ليس بسبب هزيمة 1967 التي كانت إحدى النتائج لا الأسباب، إنما لأسباب أخرى، أهمها، في تقديري، أن تجربة عبد الناصر ارتبطت بشخصه "السلطوي"، زعامة ناصر، "كاريزما" ناصر، مشاعر الجماهير مع ناصر، ومن ثم انتهت بنهايته. لا دولة تحملها، لا مؤسّسات حقيقية تدافع عنها، لا أساسات صلبة تحول دون انهيارها. ولذلك كان من السهل أن يأتي شخصٌ "هامشي" في تجربة يوليو، مثل أنور السادات، ويقوّض أركانها، من دون جهد أو عناء، فهي، رغم جدّيتها، جبال من الرمال، لا تحتاج إزالتها أكثر من تغير اتجاه الريح.
لم تكن تجربتا السادات وحسني مبارك أقلّ استبدادا وسلطوية من تجربة عبد الناصر. الفارق أن استبدادهما كان أذكى، واستفاد كلاهما، وخصوصا مبارك، من "هامش ديمقراطي" لا يسمح بمساءلة الرئيس أو تدارك أخطائه، أو تغييره، سلميا، لكنه يسمح ببعض التنفيس، ما يمد في عمر "السلطة" واستقرارها. وكان طبيعيا أن يتعرّض كلاهما لانتفاضات شعبية قوية، أملا في بناء دولة تجعل "مصر للمصريين"، كما هو شعار الحركة الوطنية المصرية منذ نشأتها، لا أملا في سقوط الدولة وهيبتها. سقط مبارك ولم تسقط شبه دولته المسلّحة، وكان بديهيا أن تعود سريعا أمام ثورة "عُزل" من السلاح والسياسة معا. وجاء عبد الفتاح السيسي مبشّرا بدولة "جديدة"، لكنه لم يستوف شروطها، بل عاداها، وعمل ضدّها، وسار، عمدا، عكسها، واعتبرها "دخيلة" على ثقافتنا، كما أننا غير مؤهلين لها بعد. ولم يخبرنا السيسي عن معالم دولته غير الدخيلة أو شروط تحقّقها، حتى بات المصريون يتحسّرون على "شبه دولة يوليو" ويتمنّون يوما من أيامها.