06 نوفمبر 2024
شرط هزيمة داعش
لم يكن الأمر يحتاج إلى بلوغ معركة الموصل نهايتها، حتى تتضح نتيجة الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فالتنظيم الذي تميز عن غيره من الحركات الجهادية بالإصرار على إقامة دولة، بأركانها المعروفة، وتمسّكه بالدفاع عنها، ما كان ليستطيع مواجهة قوةٍ نارية هائلة، من بين قدرات أخرى كثيرة، تملكها القوة العظمى في العالم، في وقتٍ يفتقد فيه أي تأييد في البيئة الاجتماعية التي يقيم بين ظهرانيها، لتطرّفه ومغالاته في سؤالي العبادات والمعاملات. لكن السؤال الذي ينبغي الوقوف عليه هنا، على الرغم من بساطته وتكراره، هو هل تعني هزيمة التنظيم عسكرياً في العراق وسورية هزيمته نهائياً. الإجابة التي تبدو واضحةً وضوح نتيجة المواجهة الدائرة الآن، هي لا. فداعش سيعود إلى الصحراء التي خرج منها، بعد أن توارى فيها في طور صعوده الأول، عندما خسر تنظيم القاعدة في العراق المواجهة مع الأميركيين والصحوات (2007-2010)، ليعود بعدها وحشاً أشدّ قسوة وأكثر عنفاً. لكن، لماذا القول باستحالة القضاء المبرم على تنظيم الدولة؟ ولماذا الجزم بشأن عودته بأشكال ومسميات أخرى؟
أولاً، لأنه بات ممكناً الحديث عن، أو رصد ما يمكن وصفه بالباترن (Pattern) أو دورة حياة التنظيمات الجهادية، والتي تشبه، إلى حد ما، النموذج الخلدوني الشهير (دعوة – عصبية وتنظيم أو شوكة – صدام مع الخصم سواء كان سلطة محلية أو قوة أجنبية – خسارة – انسحاب - ثم عودة). تنطبق هذه الدورة على أكثر التنظيمات الجهادية، مع ملاحظة أن عودتها غير مرتبطة بالضرورة بعين المكان، فهي قد تظهر بمسمىً آخر في مكان آخر (الجهاد لا أرض له).
ثانياً، لأن "داعش"، مثل كل الحركات الجهادية، ظاهرة سياسية تتوسل النص الديني (أيديولوجيا) لإسباغ الشرعية على سلوكها وسياساتها. وباعتباره ظاهرةً سياسيةً، وليس دينية، فإن هذا يعني أن نشأته مرتبطة بواقع سياسي معين. وتتسم أكثر الحركات السياسية التي تنشأ رد فعل رافضا لواقع سياسي- اجتماعي معين بالانغلاق والعنف، سواء كانت الأيديولوجيا التي تتبناها دينية أو غير ذلك. ويمكن ملاحظة، من بين أمثلة عديدة، أن ظاهرة الجهاد الأفغاني جاءت رداً على الغزو السوفييتي لأفغانستان، وظهرت جماعة الجهاد في مصر رداً على توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ونشأت القاعدة رداً على استدعاء القوات الأميركية إلى جزيرة العرب لتحرير الكويت، وكذلك على دعم واشنطن الأنظمة العربية التي اصطدم بها العائدون من أفغانستان، حيث برزت ثنائية "العدو القريب" و"العدو البعيد". أما القاعدة في بلاد الرافدين فكانت رداً على الغزو الأميركي للعراق. ويعد تنظيم الدولة الإسلامية الرد المباشر على سياسات التغوّل الطائفية التي اتبعتها إيران في لحظة نشوة بالانتصار.
عندما عاد التنظيم من الصحراء (الأنبار)، كانت الولايات المتحدة قد غادرت العراق، وتركته لإيران لتحكم قبضتها عليه عن طريق حلفائها في حزب الدعوة، وغيره من القوى السياسية المرتبطة بها. ومع إمعان حكومة نوري المالكي في سياسات التهميش والإقصاء التي طاولت حتى النخب السنية التي استوعبت فكرة أنها خسرت حكم العراق، وانخرطت في العملية السياسية "مساعدين ونوابا" للحكام الجدد، مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي وغيرهما، بلغ المأزق السني في العراق ذروته. في الوقت نفسه، كانت الثورة في سورية قد اندلعت، واختار النظام، بدعم إيران وتشجيعها، استخدام أقصى درجات العنف في مواجهتها.
في سورية، كما في العراق، شعرت إيران، مع خروج الأميركيين، وغياب العرب، بفائض قوة وفرصة تاريخية لإعلان منطقة نفوذ أمبراطورية، تمتد من جبال هند- كوش وسط أفغانستان إلى الساحل السوري على المتوسط، وقرّرت نتيجة ذلك إعلان الحرب على الانتفاضتين السورية والعراقية، إذ عدّتهما موجهتين ضد مشروعها (حلفائها)، حيث خرج جزء معتبر من مجتمعي البلدين، رفضاً للتهميش والإقصاء وطلباً لحقوق المواطنة والمشاركة العادلة في السلطة والثروة. هذه هي السياقات والظروف التي عاد في ظلها تنظيم الدولة الإسلامية من صحراء الأنبار، وما لم يظهر مشروع عربي قادر على مواجهة المشروع الإيراني، وهزيمته ورده إلى داخل حدوده، سيظل الفكر الذي أنتج تنظيم الدولة الإسلامية يقدّم نفسه باعتباره ذلك المشروع، وهو وإن توارى مؤقتاً سوف يعود بأشكال ومسميات جديدة.
أولاً، لأنه بات ممكناً الحديث عن، أو رصد ما يمكن وصفه بالباترن (Pattern) أو دورة حياة التنظيمات الجهادية، والتي تشبه، إلى حد ما، النموذج الخلدوني الشهير (دعوة – عصبية وتنظيم أو شوكة – صدام مع الخصم سواء كان سلطة محلية أو قوة أجنبية – خسارة – انسحاب - ثم عودة). تنطبق هذه الدورة على أكثر التنظيمات الجهادية، مع ملاحظة أن عودتها غير مرتبطة بالضرورة بعين المكان، فهي قد تظهر بمسمىً آخر في مكان آخر (الجهاد لا أرض له).
ثانياً، لأن "داعش"، مثل كل الحركات الجهادية، ظاهرة سياسية تتوسل النص الديني (أيديولوجيا) لإسباغ الشرعية على سلوكها وسياساتها. وباعتباره ظاهرةً سياسيةً، وليس دينية، فإن هذا يعني أن نشأته مرتبطة بواقع سياسي معين. وتتسم أكثر الحركات السياسية التي تنشأ رد فعل رافضا لواقع سياسي- اجتماعي معين بالانغلاق والعنف، سواء كانت الأيديولوجيا التي تتبناها دينية أو غير ذلك. ويمكن ملاحظة، من بين أمثلة عديدة، أن ظاهرة الجهاد الأفغاني جاءت رداً على الغزو السوفييتي لأفغانستان، وظهرت جماعة الجهاد في مصر رداً على توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ونشأت القاعدة رداً على استدعاء القوات الأميركية إلى جزيرة العرب لتحرير الكويت، وكذلك على دعم واشنطن الأنظمة العربية التي اصطدم بها العائدون من أفغانستان، حيث برزت ثنائية "العدو القريب" و"العدو البعيد". أما القاعدة في بلاد الرافدين فكانت رداً على الغزو الأميركي للعراق. ويعد تنظيم الدولة الإسلامية الرد المباشر على سياسات التغوّل الطائفية التي اتبعتها إيران في لحظة نشوة بالانتصار.
عندما عاد التنظيم من الصحراء (الأنبار)، كانت الولايات المتحدة قد غادرت العراق، وتركته لإيران لتحكم قبضتها عليه عن طريق حلفائها في حزب الدعوة، وغيره من القوى السياسية المرتبطة بها. ومع إمعان حكومة نوري المالكي في سياسات التهميش والإقصاء التي طاولت حتى النخب السنية التي استوعبت فكرة أنها خسرت حكم العراق، وانخرطت في العملية السياسية "مساعدين ونوابا" للحكام الجدد، مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي وغيرهما، بلغ المأزق السني في العراق ذروته. في الوقت نفسه، كانت الثورة في سورية قد اندلعت، واختار النظام، بدعم إيران وتشجيعها، استخدام أقصى درجات العنف في مواجهتها.
في سورية، كما في العراق، شعرت إيران، مع خروج الأميركيين، وغياب العرب، بفائض قوة وفرصة تاريخية لإعلان منطقة نفوذ أمبراطورية، تمتد من جبال هند- كوش وسط أفغانستان إلى الساحل السوري على المتوسط، وقرّرت نتيجة ذلك إعلان الحرب على الانتفاضتين السورية والعراقية، إذ عدّتهما موجهتين ضد مشروعها (حلفائها)، حيث خرج جزء معتبر من مجتمعي البلدين، رفضاً للتهميش والإقصاء وطلباً لحقوق المواطنة والمشاركة العادلة في السلطة والثروة. هذه هي السياقات والظروف التي عاد في ظلها تنظيم الدولة الإسلامية من صحراء الأنبار، وما لم يظهر مشروع عربي قادر على مواجهة المشروع الإيراني، وهزيمته ورده إلى داخل حدوده، سيظل الفكر الذي أنتج تنظيم الدولة الإسلامية يقدّم نفسه باعتباره ذلك المشروع، وهو وإن توارى مؤقتاً سوف يعود بأشكال ومسميات جديدة.