شطب فصل الربيع من التقويم العربي

05 اغسطس 2021
+ الخط -

مهما قيل عما حدث، أخيراً، في تونس من "تأويل" وتزيين وإعادة إنتاج، فهو انقلابٌ فظ، حتى وإن لم ترافقه إراقة قطرة دم واحدة، وإن كان عنوانه الأساس عملية ذبح للدستور باسم الدستور.

أكثر ما يغيظنا - نحن الكتّاب في المشهد - حين يخرج عليك تونسي أو تونسية ليصرخ في وجهك قائلاً: أنت مالك ومال تونس، نحن أدرى بشعاب "مكتنا". وهنا تحديداً يصدمك هذا الشعور الفظّ والغبي في آن. أولاً، لأنّك تشعر أنّ فيروس سايكس - بيكو قد عشّش في النخاع الشوكي لبعض العرب، وهم يعرفون، إن أرادوا، أنّ البلاد العربية جسد واحد، جرى "نشر" أجزائه وتقطيعه إرباً إرباً بقصد وتخطيط، كي يبقى خارج دائرة الفعل. وثانياً، هؤلاء يهرفون بما يعرفون أو لا يعرفون، أنّ ما يجري في تونس أو مصر أو حتى في جنوب السودان يؤثّر على أقصى قرية في بلاد الشام. وبمعنى أو آخر، يصبح انقلاب تونس حدثاً محلياً في عمّان وبغداد ونواكشوط. ولعلّ هذا ما يدركه جيداً أولئك القوم الذين جنّدوا كلّ مواردهم وشياطينهم لشطب فصل الربيع من التقويم العربي، باعتباره نذير شؤم على الدكتاتور العربي، فهو يخشى من عدوى الزهور التي تفتّحت في بعض البقاع العربية، ويريد أن تبقى "صحراء العرب" على حالها القاحل البلقع، بلا جداول ولا طيور حرّة، ولا طقس تتنفس فيه الكائنات نسائم الحرية.

انقلاب تونس بمثابة حدث محلي في عمّان وبغداد ونواكشوط

القصة ليست متعلقة بالإخوان المسلمين، وما فرّخت، بوصفها مدرسة دعوية وسياسية وإحيائية، من أحزاب وحركات واتجاهات، حملت مشعل التغيير. الهدف هنا سحق الوعي، حتى ولو كان يحمل راية العلمانية والكفر البواح. الهدف محاصرة أيّ مشروع للنهضة والقيام من الحفرة السحيقة التي انزلقت إليها الأمة، وديمومة حالة السيولة، والاستقالة من سجل الحضارة الإنسانية، وصولاً إلى بقاء هذا أو ذاك جالساً على كرسي الحكم.

ولعلّ من سوء طالع الأمة أو حُسنه، لا أدري، أنّ من تصدّر حكاية الربيع الراية الإسلامية، ربما لأنّها التعبير الأكثر صدقاً عن وجدان الأمة وعقيدتها، وربما لأنّها الأكثر تنظيماً في بلاد العرب، ولهذا أصبحت هذه الراية الأكثر استهدافاً وشيطنة.

تماهي النخبة العربية المحاربة للربيع مع كيان العدو الصهيوني كان لافتاً بامتياز، منذ اللحظات الأولى لإزهار الربيع، حين تشكّلت، على الفور، جبهة عربية صهيونية للإجهاز على الربيع، أثمرت في ما بعد منظومة اتفاقات تطبيعية، ظاهرها اتفاقات سلام وباطنها حلفٌ لشطب الربيع من التقويم العربي. وكي لا يرفع أحد القراء حاجبه مستغرباً، أعود إلى سنوات قريبة، في ذروة هبوب نسائم الربيع، في عام 2012، حين أصبح ما كان يجري في ميدان التحرير في قلب القاهرة، وبقية ميادين التحرير العربية، كابوساً يمنع العدو الصهيوني من النوم... بل حزم هذا الكيان أمتعته وبدأ، حينذاك، يستعد للحرب، بعد طول اطمئنانٍ للسبات العميق التي كانت تغطّ فيه أمة العرب، وخطوط تماسّها مع الكيان!

الهدف محاصرة أيّ مشروع للنهضة والقيام من الحفرة السحيقة التي انزلقت إليها الأمة

للمرّة الأولى منذ أعوام بعيدة، أدخل جيش الاحتلال آنذاك فرضية عبور نهر الأردن إلى الجهة الشرقية منه ضمن أهدافه استعداداً للسيناريوهات المقبلة، الأكثر سوءاً بالنسبة له، إذ بدأ الجيش الصهيوني حينها بالتدريب على محاكاة سيناريو مواجهات مع الأردن، الجبهة التي يعتبرها العدو الأكثر هدوءاً واطمئناناً، واستخدام مختلف المعدّات الحربية، وبينها صواريخ مضادّة للدبابات. وبحسب الأخبار التي بثت حينذاك، فإنّ "التدريبات في نهر الأردن جرت في ساعات الليل أيضاً، إذ أعدّ الجيش كمية من الجسور لاستخدامها عند عبور النهر، بعضها بطول عشرات الأمتار، كما تم التدريب على قوارب مطاطية وحبال وعبور مدرعات". كان التدريب على اجتياز "الشريعة" جزءاً من تدريب كبير، ترافق مع مناورةٍ للجبهة الداخلية الكبرى في تاريخها والمسماة "نقطة تحوّل 5" في سياق ما سمّاه جيش الاحتلال تدريبات "الحرب المتدحرجة" التي وُصفت بأنّها الأوسع لناحية الفترة التي استغرقتها ومتطلباتها الخاصة، وهم، وفق تصريحاتهم، كانوا لا يستبعدون، في السياق، سيطرة مصادر معادية على مخازن السلاح الكيميائي في سورية، وبدأوا يعزّزون الجهوزية لسيناريو يتضمن استخدام سلاح غير تقليدي، وسقوط صواريخ على كيانهم. ولهذا شملت التدريبات تأهيل 86 مجموعة مراقبة في خدمة الاحتياط، كان سيتم نشرها في أثناء الحرب "المفترضة" في أرجاء البلاد لتبلغ عن الأماكن الدقيقة لسقوط الصواريخ. وعلى وقع هذه التدريبات أطلق الجنرال عاموس جلعاد، رئيس الهيئة الأمنية والسياسية بوزارة الحرب آنذاك، تحذيراً من أنّ سقوط نظام بشار الأسد سيترتب عليه حدوث كارثة تقضي على تل أبيب، نتيجة ظهور إمبراطورية إسلامية في منطقة الشرق الأوسط بقيادة جماعة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسورية. ووفق إذاعة جيش العدو في حينه، قال جلعاد إنّ الفكر المعلن الذي تنتهجه الجماعة في البلدان الثلاثة يهدف إلى تصفية دولة الكيان الصهيوني ومحوها، وإقامة إمبراطورية إسلامية تسيطر على منطقة الشرق الأوسط. وقال الجنرال جلعاد حينها إنّ "إسرائيل" شعرت بالأخطار التي تواجهها من عدة جهات، خصوصاً مصر. ولهذا قرّرت أن تحسّن علاقاتها مع تركيا، وتتحاشى القطيعة الدبلوماسية معها، حتى لا تضطر تل أبيب إلى محاربة المسلمين في عدة جبهات مفتوحة، ستؤدّي، في النهاية، إلى خسارتها بالتأكيد!

قد يكون للإسلاميين استبدادهم، لكنّه الاستبداد الوحيد القادر على تفكيك ليس الكيان الصهيوني فحسب، بل منظومة الاستبداد الذي ربض على صدور الناس عقوداً طويلة

حينما نعود إلى تلك الأيام، والربيع في ذروته، والزلزال الذي أحدثه في كيان العدو، ندرك اليوم مدى أهمية قبر الربيع حيث ولد، في تونس تحديداً، وأيّ قراءةٍ لما يحدث في تونس خارج هذا السياق تغميس خارج الصحن، ومحاولة للتضليل.

قد يكون للإسلاميين استبدادهم، وفق أصحاب نظرية "شيطنتهم"، لكنّه الاستبداد الوحيد القادر على تفكيك ليس الكيان الصهيوني فحسب، بل منظومة الاستبداد الذي ربض على صدور الناس عقوداً طويلة، وكان خير "صديق" لعدونا، وحارساً أميناً لمصالحه وأمنه.

إذاً، هي محاولة ليس لشطب فصل الربيع من التقويم العربي فحسب، بل توفير ربيع دائم أيضاً لكيان الاحتلال المتوحش الذي ما فتئ يعيث فساداً وتخريباً، ليس في فلسطين فقط، بل في مجمل الجغرافيا العربية والإسلامية، والعالمية أيضاً، بما ينشره من موت ودمار ومرتزقة وتكنولوجيا سوداء للتجسّس والخراب.

A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن