شهر ثالث من الحرب المأساة في السودان
لا تعويلَ على نهاية قريبة للحرب في السودان، رغم دخولها الشهر الثالث. يُمكِن في اليوم الواحد قراءة أكثر من تصريح متناقض لأحد طرفي الحرب (الجيش وقوات الدعم السريع) بشأن الهدنة والمفاوضات واحتمال عقد لقاء يجمع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي). وعلى الرغم من إلقاء السعودية والولايات المتحدة بثقلهما من أجل التوصل إلى هدنة فعلية لا مجرّد شكلية، وتلويح واشنطن بعصا العقوبات وحتى استعمالها لو في الحد الأدنى، لم تنجح الرياض وواشنطن في تحقيق هدنة، إلا عندما حدّدتا مدتها بـ24 ساعة فقط. أما هدن الأيام السبعة التي تكرّرت فلم تكن ناجحة. وحتى محاولة إدخال قادة أفارقة على خط محاولة التوفيق بين الطرفين لا تبدو ذات آمال كبيرة يعوّل عليها.
يمكن للبرهان ودقلو تبادل الاتهامات كيفما شاءا عن المسؤولية بشأن خرق الهدن طوال الشهرين الماضيين، فلن يكون الشهر الثالث أفضل حالاً، بل تفيد جميع المؤشّرات بأن المعارك تتخذ منحى أكثر تصعيداً. من جهة دخل سلاح الطيران المسيّر على خط المعركة، وهذا يعني أن نقطة تفوّق الجيش التي كانت تتركّز في الطيران الذي يستهدف قوات حميدتي ستتراجع، بانتظار اتّضاح كمية الطيران المسيّر الذي يمتلكه حميدتين وما إذا سيكون قادراً على إحداث تغييرٍ في ميزان القوى، خصوصاً بعدما فشل الطرفان في حسم المواجهات وتبادلا انتزاع السيطرة على مراكز استراتيجية أكثر من مرّة منذ تفجر الاشتباكات بينهما في 15 إبريل/ نيسان الماضي. ومن جهة ثانية، بدأ يظهر اتساع خطير في خريطة الصراع، إذ لم يعد يقتصر على الخرطوم ومحيطها، بل يمتد إلى أكثر من منطقة كانت بعيدة عن سير المعارك طوال الفترة الماضية. وحتى اليوم يمكن تسجيل اشتباكات في ولاية جنوب كردفان، بعد مدن نيالا والجنينة وزالنجى وكتم في دارفور، والأبيض في شمال كردفان.
وإذا كانت الأزمة الإنسانية، بوجهها الأوضح المتمثل في تعطّل المستشفيات، وغياب الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء واتصالات، وفقدان المواد الغذائية، الأكثر بروزاً في الخرطوم، فإن الوضع في مناطق أخرى مثل الجنينة في غرب دارفور أكثر رعباً.
الحديث اليوم عن إبادة. ورغم قلة الأخبار التي تصل من هذه المنطقة، يمكن وضع تصوّر أولي لما يجري بناء على ما تُصدره لجنة أطباء السودان من بيانات بشأن المنطقة، وما تشتمل عليه من تحديث شبه يومي لأرقام للقتلى، حتى أنها وصفت الوضع في المدينة قبل أيام بأنه "أكبر مأساة إنسانية تشهدها الكرة الأرضية".
كما يمكن رصد كل بضعة أيام منشوراتٍ يتناقلها سودانيون على "فيسبوك" ممن لديهم أقارب في المدينة عن الأحوال الكارثية وعمليات فرار جماعي للسكان نحو تشاد، وعن جثثٍ في الشوارع وعمليات نهب واغتصاب واسعة. كما أن صوراً للأقمار الاصطناعية تُظهر كيف أن أحياء بأكملها قد انتهت من الخريطة بعد ما أكلتها النيران جرّاء المعارك. حتى والي غرب دارفور خميس أبكر، الذي وصف مدينة الجنينة بالمنكوبة أول من أمس، لم ينج من القتل بعد ذلك بوقت قصير، بعدما وصلت الاشتباكات إلى محيطه، قبل تصفيته مع وصول قوات الدعم السريع إليه، ليقترب الإقليم أكثر من نقطة اللاعودة في ما يتعلق بالاقتتال. وكانت التحذيرات من خطوة الوضع قد وردت أيضاً على لسان رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرتس، الذي حذّر قبل أيام من أنّ أعمال العنف في إقليم دارفور تتّخذ طابعاً عرقياً، وترقى إلى "جرائم ضد الإنسانية".
ويعيد كل حديث عن دارفور إلى الأذهان خطورة الحرب في المنطقة، فالإقليم شهد، عقب اندلاع النزاع فيه في عام 2003، إبادة جماعية وحملة تطهير عرقي مع كل ما تحمله هذه الجرائم من قتل جماعي، واغتصاب، وتهجير قسري. ويبدو أن الزمن يعيد نفسه في الإقليم هذه المرّة وسط مخاوف من اتساع هذه الموجة إلى مناطق أخرى، لتصبح الجرائم واسعة النطاق عنوان الشهر الثالث من الحرب.