04 نوفمبر 2024
"شو صار" في لبنان
وأداً للفتنة، على ما قالت، منعت الرقابة في الأمن العام في لبنان، عرض فيلم، يتقصّى فيه مخرجه، ديغول عيد، واقعة قتل والده وأمه وأخته وأقارب له، في مجزرةٍ اقتُرفت في غضون الحرب الأهلية، في العام 1980. كان ذلك قبل أزيد من أربعة أعوام. ولم يُؤذن، إلى الآن، عرضٌ لهذا الفيلم الذي شاهده كثيرون في غير مناسبة، أحدهم كاتب هذه السطور في مهرجان دبي السينمائي، بحضور المخرج الذي أكّد، لنا، في دردشةٍ أعقبت العرض، إنه لا يريد من فيلمه ثأراً، أو انتقاماً من أحد، أو تحريضاً ضد أحد، وكل ما يريده عدم النسيان. ويختتم الفيلم "شو صار" بمشهد تعرّف المخرج على قاتل أمه، أمام دكان صغير في قريةٍ، يخبره بذلك، فيرتبك القاتل القديم أمام الكاميرا، وينتظر ثواني أن يسمع شيئاً آخر، ثم لا يقول شيئاً.
أستدعي، هنا، ذلك الفيلم الممنوع، لأزعم أن الممنوع اللبناني أوسعُ من فيلمٍ عن فاجعةٍ شخصيةٍ، إذ يطال الذاكرة والحقيقة، ويتم بمشاركة الجميع، ليس عملاً بدرء الفتنة، ولا رفضاً لإيقاظ الجراح، وإنما لأن التوافق اللبناني على رواية ما جرى غير ممكن بعد، ولأن التفاهم العام على سرديةٍ مكتملةٍ وموثوقةٍ بصدد الحرب الأهلية (وغيرها؟) ما زال بعيداً. لذلك، أجازف وأكتب، هنا، أن إخواننا اللبنانيين، في تذكّرهم، سنوياً كل نيسان، الحرب الأهلية، وقد اكتملت، الأسبوع الجاري، أربعون عاماً على رفع بيارقها، إنما يزاولون فلكلوراً كلامياً موسمياً، صار تقليدياً من فرط تكراره، ولا سيما في السنوات الأخيرة، خصوصاً في استدعائهم حكاياتٍ فرديةً وجماعية، وإنْ بسويّةٍ جذابةٍ غالباً، كما نصادفها في الجرائد والفضائيات اللبنانية، وربما يكون المستجد الأوضح، في الأثناء، أن إيقاع الحديث عن عدم انتهاء تلك الحرب، وعن استمرار أسبابها، وعن هدنةٍ ينعم بها اللبنانيون، صار أعلى، وإنْ ثمّة الإجماع المؤكّد على نبذ الحرب ورفضها، وهي "تنذكر ما تنعاد".
لم يظهر بعد زعيمٌ لبناني لديه شجاعة الجهر بمفردة اعتذار، وقد طالب وليد جنبلاط اليمين اللبناني (بتعبيره) بذلك، معتبراً نفسه خارج التغطية. وحدث أن كريم بقرادوني، في مقابلة تلفزيونية، أن اعتذر بشخصه، لا بما يمثل ومن كان يمثل، من ضحايا "صبرا وشاتيلا"، لأن دينه المسيحي لا يجيز اقتراف تلك المقتلة. وخطا دوري شمعون خطوةً متقدمةً في قوله، مرة، إن الجميع أخطأوا، والشعب اللبناني يستحق كلمة اعتذار. ودعا طارق متري، إبّان كان وزيراً، إلى "كشف حقائق الماضي من دون الوقوع في خلافات الحاضر". واقترح غازي العريضي أن يتحاور اللبنانيون، على اختلاف طوائفهم وحزبياتهم، بشأن الحرب التي راحت، بمصارحةٍ ومكاشفةٍ، ضمن ما يشبه لجنة المصالحة والحقيقة في جنوب إفريقيا.
لا أظنني نحريراً ودوني خرط القتاد، لو زعمتُ، هنا، أن لبنان ليس في وسعه، بعد، أن يأخذ بشيء من هذه الاجتهادات، وبعضها أُلقي كيفما اتفق. فإذا كان مواطنوه يشاهدون حروباً أهلية عربية، في زمن التلفزات الوفيرة الراهن، وعلى الهواء مباشرة أحياناً، فلا يزيدهم ذلك إلا اختلافاً (وشقاقا؟) بشأن تعيين الصح والغلط مما قدّامهم على الشاشات، كيف لهم، أن يتفاهموا بشأن ما اشتعل بينهم قبل أربعين عاماً. هل يتذكّر أحدٌ أن اتفاق الطائف نصّ على توحيد كتاب التاريخ في المنهاج المدرسي اللبناني، ثم خابت كل المحاولات من أجل إنجاز هذا الحلم المشتهى. قال لنا ديغول عيد، لمّا شاهدنا فيلمه، إن الزعماء اللبنانيين إذا كانوا قد تواطأوا على النسيان، فإن الضحايا لا يستطيعون النسيان. ومرَّ الموسم الكلامي، هذا العام، في ذكرى الحرب الملعونة، وقيل فيه الكلام المألوف إيّاه، وقيلت مراجعاتٌ محمودة، غير أن ثمة قاتلاً مرتبكاً وصامتاً، شاهدناه في فيلمٍ ممنوع، وثمّة قاتلٌ لا مانع لديه من أن يستأنف سيرته.
أستدعي، هنا، ذلك الفيلم الممنوع، لأزعم أن الممنوع اللبناني أوسعُ من فيلمٍ عن فاجعةٍ شخصيةٍ، إذ يطال الذاكرة والحقيقة، ويتم بمشاركة الجميع، ليس عملاً بدرء الفتنة، ولا رفضاً لإيقاظ الجراح، وإنما لأن التوافق اللبناني على رواية ما جرى غير ممكن بعد، ولأن التفاهم العام على سرديةٍ مكتملةٍ وموثوقةٍ بصدد الحرب الأهلية (وغيرها؟) ما زال بعيداً. لذلك، أجازف وأكتب، هنا، أن إخواننا اللبنانيين، في تذكّرهم، سنوياً كل نيسان، الحرب الأهلية، وقد اكتملت، الأسبوع الجاري، أربعون عاماً على رفع بيارقها، إنما يزاولون فلكلوراً كلامياً موسمياً، صار تقليدياً من فرط تكراره، ولا سيما في السنوات الأخيرة، خصوصاً في استدعائهم حكاياتٍ فرديةً وجماعية، وإنْ بسويّةٍ جذابةٍ غالباً، كما نصادفها في الجرائد والفضائيات اللبنانية، وربما يكون المستجد الأوضح، في الأثناء، أن إيقاع الحديث عن عدم انتهاء تلك الحرب، وعن استمرار أسبابها، وعن هدنةٍ ينعم بها اللبنانيون، صار أعلى، وإنْ ثمّة الإجماع المؤكّد على نبذ الحرب ورفضها، وهي "تنذكر ما تنعاد".
لم يظهر بعد زعيمٌ لبناني لديه شجاعة الجهر بمفردة اعتذار، وقد طالب وليد جنبلاط اليمين اللبناني (بتعبيره) بذلك، معتبراً نفسه خارج التغطية. وحدث أن كريم بقرادوني، في مقابلة تلفزيونية، أن اعتذر بشخصه، لا بما يمثل ومن كان يمثل، من ضحايا "صبرا وشاتيلا"، لأن دينه المسيحي لا يجيز اقتراف تلك المقتلة. وخطا دوري شمعون خطوةً متقدمةً في قوله، مرة، إن الجميع أخطأوا، والشعب اللبناني يستحق كلمة اعتذار. ودعا طارق متري، إبّان كان وزيراً، إلى "كشف حقائق الماضي من دون الوقوع في خلافات الحاضر". واقترح غازي العريضي أن يتحاور اللبنانيون، على اختلاف طوائفهم وحزبياتهم، بشأن الحرب التي راحت، بمصارحةٍ ومكاشفةٍ، ضمن ما يشبه لجنة المصالحة والحقيقة في جنوب إفريقيا.
لا أظنني نحريراً ودوني خرط القتاد، لو زعمتُ، هنا، أن لبنان ليس في وسعه، بعد، أن يأخذ بشيء من هذه الاجتهادات، وبعضها أُلقي كيفما اتفق. فإذا كان مواطنوه يشاهدون حروباً أهلية عربية، في زمن التلفزات الوفيرة الراهن، وعلى الهواء مباشرة أحياناً، فلا يزيدهم ذلك إلا اختلافاً (وشقاقا؟) بشأن تعيين الصح والغلط مما قدّامهم على الشاشات، كيف لهم، أن يتفاهموا بشأن ما اشتعل بينهم قبل أربعين عاماً. هل يتذكّر أحدٌ أن اتفاق الطائف نصّ على توحيد كتاب التاريخ في المنهاج المدرسي اللبناني، ثم خابت كل المحاولات من أجل إنجاز هذا الحلم المشتهى. قال لنا ديغول عيد، لمّا شاهدنا فيلمه، إن الزعماء اللبنانيين إذا كانوا قد تواطأوا على النسيان، فإن الضحايا لا يستطيعون النسيان. ومرَّ الموسم الكلامي، هذا العام، في ذكرى الحرب الملعونة، وقيل فيه الكلام المألوف إيّاه، وقيلت مراجعاتٌ محمودة، غير أن ثمة قاتلاً مرتبكاً وصامتاً، شاهدناه في فيلمٍ ممنوع، وثمّة قاتلٌ لا مانع لديه من أن يستأنف سيرته.