صحافيون في دبّابات إسرائيلية
لم نشاهد مراسلين لمحطّاتٍ تلفزيونيةٍ ومنصّاتٍ إخباريةٍ كبرى، أميركية وأوروبية، مثل سي إن إن وسي إن بي سي ودويتشه فيلله وفوكس نيوز وقنوات فرنسية (وغيرها) في قطاع غزّة، أمام دمارٍ في مخيّم جباليا، أو بين أنقاضٍ في مخيم النصيرات، أو عند بوابة مستشفى الشفاء، أو في حارة في خانيونس، أو .... لم نشاهد مراسلا من هذه القنوات، مثلا، يلبس السُّترة والخوذة الواقيتين، ويبثّ مع مصوّر معه أخبارا من موقع الحدث. يحدُثُ، أحيانا، أن تتواصل هذه التلفزاتُ مع صحافيين فلسطينيين أو شهود عيانٍ في القطاع المنكوب، بشأن خبرٍ أو معلومةٍ، ويحدُث أن تبثّ صورا ورسائل إخباريةً (مفلترةً بعض الشيء) من وكالاتٍ أو مؤسّسات تزويدٍ لوجستيةٍ يتعاونون معها. ومع التسليم البديهيّ بأن في الحروب مخاطر كبرى وصغرى، وتحرِص المؤسّسات الإعلامية على تجنيب العاملين فيها من احتمالات الإصابة أو الموت، إلا أننا لم نعدَم وجود مراسلين لها في العراق والبوسنة وسورية وأوكرانيا، في غضون حروبٍ ونزاعاتٍ في هذه البلدان، وقد سقَط قتلى منهم غير مرّة. ومن مفارقاتٍ في أثناء الحرب المتوحّشة على أهالي قطاع غزّة، أن مراسلين ومصوّرين وصحافيين أميركيين وأوروبيين بلا عدد يرابطون في القدس المحتلة وتل أبيب (ويتردّدون أحيانا على مواقع في غلاف غزّة)، ومن حيث هم يغذّون شاشاتِهم ومؤسّساتهم بتقاريرهم، عن الجاري في غزّة، واعتمادا، على الأغلب، على مصادر وبياناتٍ (عسكرية وسياسية) إسرائيلية، مع بعض اقتباساتٍ واجتهاداتٍ لخبراء عن تصوّراتهم لجريان الحرب ومآلاتها، مع إشاراتٍ، بمقادير ملحوظة، وأحيانا جيّدة، إلى صعوبة الأوضاع في القطاع، وسقوط أعداد كبيرة من المدنيين، غير أن هذا كله يرد بصيغةٍ تأتي على "ردودٍ إسرائيليةٍ عنيفة" على "فظاعات حماس"، مع مشاهد لمواقع إسرائيلية في مستوطناتٍ في غلاف غزّة مثلا استهدفتها "حماس".
لا يحاول أولئك الصحافيون، غير المهنيين في أدائهم بشأن غزّة، التعمية على انحيازاتهم واصطفاف مؤسّساتهم مع السرديّات الإسرائيلية، الدعائية والكاذبة، فيقتلون الحقيقة ويقترفون مذبحةً للمصداقية والمهنية الإعلامية. وفي الأثناء، يُلاحظ أن الصحف والدوريات الإخبارية الكبرى، الأميركية والبريطانية مثلا، أقلّ انحيازا في سياستها التحريرية الإخبارية بشأن غزّة، فهذه "نيويورك تايمز" تبذُل جهدا طيّبا في "التشكيك" في الزّعم الإسرائيلي إن الصاروخ الذي ضرب مستشفى المعمداني انطلق من غزّة نفسها، واجتهد تقريرٌ لها في هذا الخصوص بقسطٍ من مهنيّةٍ ظاهرة، فقد اعتنى بتحليلٍ "بصريٍّ وتفصيلي" لفيديوهاتٍ معيّنة. وتنشر الصحيفة نفسُها السبت الماضي، بعد تحليلٍ أجرته لصور من الأقمار الصناعية، ولمقاطع فيديو، أن الضربة الإسرائيلية على مخيّم جباليا في قطاع غزّة تمت بقنبلتين تزن الواحدة 900 كيلوغرام. ولفتت إلى أن الجيش الإسرائيلي رفض التعليق. ولافتٌ، في الغضون، أن "نيويورك تايمز" نفسها تفصل محرّرةً (زنجيةً) لديها، عقابا لها على توقيعِها على رسالةٍ مفتوحةٍ ترمي إسرائيل بارتكاب إبادةٍ جماعيةٍ في غزّة.
يحتاج البحثُ في أداء الميديا الغربية بشأن الحرب العدوانية إلى استطرادٍ أوْفى، وتقَصٍّ أوسع، لكن هذه العُجالة لا تختتم سطورها هذه من دون استفظاع واقعة اصطحاب الجيش الإسرائيلي صحافيين، في قافلةٍ من خمس دبّاباتٍ وعربتيْن مصفّحتين، إلى "محور المواجهة" والشاطئ في داخل غزّة، مساء السبت الماضي، لإطْلاعهم على ما أراد الجيش أن يروْه. ويُخبرنا أحد هؤلاء، رونين بريغمان في "نيويورك تايمز"، عمّ شاهده (برفقة زملائه وأحدُهم من "فوكس نيوز")، في أربع ساعات، ومنه جدارُ مدرسةٍ تحوّل إلى أنقاض، ومئذنة مسجدٍ مائلة، وسقف فيلا على الشاطئ اختفى، ويوضِح أن غرض الجيش من جولة الأربع ساعات أن يُشاهد الصحافيون "التقدّم الذي يقوم به". وقد سمع هؤلاء من كولونيل رافقوه أن الجيش يتعامل مع "حماس" كإمساك "فأر"، وأنه أجبرها على الخروج من المدرسة والمسجد. وملحوظٌ أن كاتب التقرير في الصحيفة الأميركية العتيدة ينقل مزاعم الضابط الرفيع، بكثيرٍ من الحياديّة، ويسترسل في الكتابة عن مشاهداتِه، كما لو أنه يصوّر فيلما.
ليس جديدا أن يواكب صحافيون أرتالا عسكرية في أثناء معارك، أو في خواتيم حروب. ولعل هذا تقليدٌ أميركيٌّ عتيق، شوهد شيءٌ منه عند تحرير الكويت، وفي أثناء حرب خلع صدّام حسين تاليا، غير أن من المدهش أن تغيبَ، أيها الصحافي الزميل، عن غزّة تحت نيران القصف الأعمى تماما، وتغطّي الحرب فيها وعليها من القدس وتل أبيب، ثم تتجوّل برفقة الجيش على شاطئ غزّة وأنت في دبّابة ... هذا عجيب.