صخرة أوراسيا على المنحدر الأوكراني
اعتبر وزير الخارجية الأميركي المخضرم هنري كيسنجر، في كتابه "الدبلوماسية" (1994)، أن المهمة الأكثر صعوبة التي تواجهها أي وزارة خارجية هي العمل في ظل انهيار إمبراطورية. وفي العام 2013 نشر الروائي الروسي فلاديمير سوروكين رواية عنوانها "تيلوريا"، يتخيّل فيها تَفكُّك بلاده. وفي مذكراته قال المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية روبرت غيتس إنه في أثناء انهيار الاتحاد السوفييتي (1991)، تمنَّى ديك تشيني "رؤية تفكيك... ... روسيا نفسها".
ولم تنشئ الحرب الروسية الأوكرانية جبهة مواجهة غربية/ روسية، فهذه المواجهة جزءٌ من بنية العلاقات الدولية منذ تولي فلاديمير بوتين السلطة في روسيا. وخلال السجال المرافق للحرب الذي يهدف إلى التبرير السياسي والأخلاقي للصراع، بدأت العلاقات الدولية تشهد ملامح اصطفاف ثنائي يشوبه قدر من الغموض. وفي مقابل تقارب صيني حذر مع روسيا، يشهد الاصطفاف الأميركي الأوروبي خلافاتٍ تشمل المساعي الفرنسية للبحث عن موطئ قدم لموقف وسط بين موسكو وواشنطن، فضلًا عن تحفّظ واضح تمثله المجر على الخيار الأميركي/ البريطاني/ الألماني الذي يزداد تشدُّدًا في مواجهة روسيا.
ومع استمرار الدعم العسكري الأميركي/ الأوروبي لأوكرانيا، انتقلت دوائر رسمية ومؤسّسات إنتاج أفكار غربية إلى تداول احتمال أن تسفر الحرب عن انهيار روسيا وتَـفَـكُّكِها. وخلال 2022 كانت فرضية التَـفَـكُّك تأخذ مكانها بوضوح في الخطاب الاستشرافي الغربي، واعتبر مسؤول استخباراتي أميركي متقاعد أن انهيار روسيا بسبب الحرب ليس مُستَبعَدًا، وقد يتسبب في تدخل عسكري صيني واسع في بلدٍ يعاني هشاشة سكانية مزمنة، وتضم أراضيه موارد طبيعية هائلة، ما قد يساهم في تشجيع الصين على ملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن ذلك، وخصوصا أن تاريخ تَغيُّر الخرائط على حدود البلدين يوفر للصين ما يمكن أن "يبرّر" مطالبة بأراضٍ روسية.
السؤال الجيوستراتيحي الذي يطرحه احتمال انهيار روسيا هو نفسه (تقريبًا) الذي أثاره انهيار الاتحاد السوفييتي
ولعل "الفايننشيال تايمز" كانت الأسبق في دق جرس الإنذار، فكتبت في يوليو/ تموز 2022 أن "الحديث عن تفكّك روسيا قد يبدو غريبًا، فيما يسعى بوتين إلى التوسّع، عبر ضمّ أجزاء من أوكرانيا"، ونقلت عن المفكر الروسي في السياسة الخارجية سيرغي كاراجانوف ردّه على ما إذا كانت الحرب قد تؤدي إلى تفكّك روسيا، فأجاب: "نعلم أن هذا احتمال، ونتحدّث بصراحة عن ذلك". وتوالت مقالات كثيرة ترجّح هذا الاحتمال في مجلات مثل "ناشيونال إنترست" و"ذي أتلانتيك" وغيرهما. وفي عبارةٍ تلخّص ما وصلت إليه الحماسة لفكرة تفكيك روسيا بدلًا من انتظار تَـفَـكُّكها، كتب البرفسور جوليان سبنسر – تشرتشل الأستاذ المشارك في جامعة كونكورديا الكندية (ناشونال إنترست، يونيو/ حزيران 2022)، داعيًا الغرب إلى أنه "من الأفضل أن يفكّر الاستراتيجيون الغربيون في الطريقة التي يعيدون بها تشكيل (أوراسيا) قبل أن تبدأ روسيا بالتفكّك السريع". وقبل نهاية العام (2022)، حذر مقال في مجلة فورين أفيرز الأميركية من تَفَكُّك روسيا، وهو ما يمكن أن يؤدّي "إلى مزيد من العنف الذي يؤثر على الأمن الدولي".
ولاحقًا، حذّرت المؤرّخة وعالمة السياسة الفرنسية المتخصصة في شؤون أوراسيا مارلين لارويل صنّاع السياسة الغربيين من الوقوع في فخّ التصريحات الراديكالية للمنفيين السياسيين من روسيا، والجغرافيا الروسية تكشف افتقارها للتماسك، فهي تمتد على 11 منطقة زمنية، وهي أكبر الدول مساحةً، وخُمس سكانها ليسوا من أصل روسي. ويضم الاتحاد الروسي أكثر من 20 جمهورية، لكل منها دستورها ومجلسها التشريعي الخاص، فضلًا عن اختلافاتٍ في التاريخ، والجغرافيا. وفي إبريل/ نيسان 2023، قالت الكاتبة في "فورين بوليسي" الأميركية أنشال فوهرا إن استراتيجيين غربيين يضعون نصب أعينهم احتمال تَفَكُّك روسيا، معتبرين أنه آتٍ، وعلى الغرب الاستعداد لإدارة أي تداعيات محتملة لعواقبه. وقد دعت لجنة الأمن والتعاون في أوروبا، وهي وكالة أميركية مستقلة تضم أعضاء من مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين ووزارات الدفاع والخارجية والتجارة، إلى ما تسمّيه "إنهاء الاستعمار الروسي" كـ"هدف أخلاقي واستراتيجي". وقد عقد "منتدى الأمم الحرّة لما بعد روسيا"، وهو يضم منفيين من روسيا، اجتماعًا في البرلمان الأوروبي، ونشر خريطة لروسيا ممزّقة إلى 41 دولة.
والسؤال الجيوستراتيحي الذي يطرحه احتمال انهيار روسيا هو نفسه (تقريبًا) الذي أثاره انهيار الاتحاد السوفييتي، والمخاطر التي يمكن أن تترتّب عليه لا تقلّ عما نجم عن انهيار الاتحاد السوفييتي، فهل يتحسّب صنّاع القرار العرب لهذا الاحتمال الدرامي؟!