صعوبة أن تكون لاعنصرياً اليوم
أن تكون لاعنصرياً اليوم، يعني أنك تسبح عكس التيار الذي أصبح هو القاعدة واللاعنصرية هي الاستثناء، لا عددياً بل في ارتفاع الصوت وفعاليته وسهولة وصوله بما يحمله من أكاذيب وشعبوية ومداعبة متوترة للعواطف والأعصاب. والعنصرية درجات، منها ما يتم تلطيفه في التسميات، فتوصف تياراتها حيناً بأنها يمين متطرف أو يمين شعبوي أو فاشي أو نازي جديد، وقد يُكتفى في بعض السياقات باستعارة مصطلحات ناعمة من صنف الوطنيين والقوميين للإشارة إلى كارهي شعوب بعينها أو أعراق أو أتباع ديانات أو أصحاب بشرة من لون معين بشعارات أميركا أولاً أو لبنان أولاً أو أي بلد أولاً، لأن الأول يعني حتماً دهس الآخرين لكي يبقى أولاً، ولأن "الأفكار القومية" تعني الحرب، بحسب نبوءة فرانسوا ميتران.
رحيل دونالد ترامب (مؤقتاً؟) حرم العنصريين وهجاً لكنه لم يطفئ نيرانهم. يذهب بنيامين نتنياهو في إسرائيل، فيأتي من هو عنصري أكثر منه، ليعود ربما نتنياهو في الخريف المقبل بوجبة عنصرية أدسم وأدسم. في الخريف أيضاً، ربما يهدم لولا دا سيلفا عموداً سميكاً من مبنى فاشية جايير بولسونارو، لكن ذلك الانتصار المرجح للمرشّح اليساري لن يعالج أسباب العنصرية في بلد بحجم البرازيل. أسباب تبدأ من رواسب اقتصار العولمة على فتح الحدود أمام حركة السلع وإغلاقها أمام حركة البشر، ولا تنتهي بما تفرزه الأزمات الاقتصادية المتلاحقة من كراهية وخرافات ضرورية لتفسير الفقر الواقع. ليس كل شعبوي عنصرياً، لكن كل عنصري هو شعبوي. من دون شعبوية، لا يستطيع عنصري اسمه جبران باسيل في لبنان صياغة عبارة ثلاثية الأضلاع، بؤسها بوزن "نحن عنصريون بوطنيتنا". من دون شعبوية، لا يمكن لشيخ العنصريين الأوروبيين، فيكتور أوربان، أن يقول إنه لا يريد أن يكون المجريون "عرقاً مختلطاً قد يمتزج بغير أوروبيين". وطبعاً من دون شعبوية هي جسد العنصرية ولسانها، لا يعرف كَتبة خطابات بشار الأسد الإيعاز له بنطق شيء من نوع أن سورية اكتسبت مجتمعاً متجانساً بعد قتل من قُتل وتهجير من هُجر منذ اشتغال المحرقة السورية.
على أنّ ضحايا عنصرية جبران باسيل محصورين بالأجانب الفقراء المقيمين في لبنان، لا الأجانب عموماً ولا كل السوريين ولا جميع الفلسطينيين، بل فقراؤهم ممن لا يمتلكون ثروات تسمح لوالد زوجة باسيل، ميشال عون، بتوزيع مراسيم التجنيس عليهم. أما ضحايا رئيس حكومة بلد عضو في الاتحاد الأوروبي، أي فيكتور أوربان، فإنما هم شرائح واسعة، لأن أوربان ذاك عضو في تيار أوروبي عريض ينهل أعضاؤه من نبع واحد. تسمع أوربان يخطب بـ"الاستبدال العظيم" للمسيحيين البيض في أميركا وأوروبا لإحلال مسلمين وآسيويين وأفارقة غير مسيحيين مكانهم، فيغار منه إريك زيمور ومارين لوبان في فرنسا ويقلده ماتيو سالفيني وجيورجيا ميلوني وأنطونيو تاجاني في إيطاليا... على أن حديث عرب كثر عن العنصرية المتفشية في الغرب وعن الإسلاموفوبيا بشكل مبالغ فيه إلى حدّ الهذيان، من دون تخصيص ما يكفي من المساحة للعنصرية عندنا أولاً، إنما يثير شفقة كثيرة وقرفاً أكثر لأن أغلب حالات تجاهُل عنصريتنا تنمّ عن سوء نية لا عن مجرد غباء أو قصر ذاكرة أو عمى ألوان وغرام بتلبس دور الضحية. كذلك ليست مصادفة أن روسيا والصين وإيران والهند أكثر البلدان ترويجاً لخطاب أيديولوجي قومي يلامس العنصرية، ويمارسها يومياً ضد الداخل والخارج. مناهضة الديمقراطية والليبرالية والحداثة، ثم التفرّغ لشتم عولمة الأفكار والثقافات مقابل التمسك بعوائدها الاقتصادية، ووضع قتل الناس في خانة الحقوق السيادية للدول، هو المثلث "الفكري" الضروري لتغذية العنصرية بإطار نظري.
والحال أن لا مكان للمصادفة في استعجال حكام عرب التوجه نحو الشرق. هناك، العنصرية ستسمى وطنية، وكره الأجانب حرص على مصلحة الشعب، واستسهال إبادة مجموعات بشرية وتهجيرها ستوصف بأنها الرد الحقيقي على مؤامرة الديمقراطية الغربية.