صفقة الأسرى... الفشل الإسرائيلي ويوم الحساب
بعد 46 يوما من حربها ضد قطاع غزّة، اضطرت إسرائيل إلى الامتثال لما أملته المقاومة الفلسطينية، والنزول عند شروطها، والتنازل عن كل ما ظنّت أنها لن تتراجع عنه في أول الحرب. وأصبح الإسرائيليون جميعا، وبلا استثناء، يدركون أن إسرائيل قد هزمت هذه المرّة أيضا، بعد أن هزمت في 7 أكتوبر، وبعد أن فشلت في إنجاز ما كانت تمنّي به مواطنيها من إعادة أسراها في غزّة من خلال قوتها الباطشة، أو أن تضع المقاومة تحت ضغوط جبّارة تمكّنها من فرض شروطها عليها.
يحرص الإسرائيليون، منذ بدأت أنباء قرب التوصل إلى الصفقة تلوح في الأفق، على تجنّب تعبير الهزيمة، واستبداله بعبارات أقلّ وطأة، تخفّف من وقع ما يحدُث؛ "هذا ليس انتصارا"، "ما حدث كان قرارا صعبا، لكنه الخيار الصحيح" .. لا يهم أيّ العبارات يستخدمها الساسة أو الإعلاميون هناك لتبرير الفشل الجديد، فرجل الشارع العادي في دولة الاحتلال يدرك جيدا معنى الهزيمة حين ينظر إلى صور بنيامين نتنياهو، وهو يعلن عن الاضطرار للصفقة، وهو مطأطئ الرأس، بعد أن ظلّ أسابيع يقول إنه سيفرض شروطه على المقاومة، وسيعيد الأسرى بالقوة، كما أن اختيار مواقع إخبارية إسرائيلية، مثلما فعل موقع القناة 12، صورا سابقة لرئيس الحكومة، نتنياهو، والوزيرين، غانتس وغالانت، مغلفة بملامح الحزن والأسى، لم يكن من قبيل المصادفة، بل تعكس عبارات تم تسريبها من اجتماع الحكومة لمناقشة الصفقة شعور وزرائها جميعا بالخيبة، وأن ما يحدُث هو انتصار للمقاومة؛ فقد نقل الصحافي في قناة كان الإسرائيلية، ميخائيل شيمش، عن وزير الأمن بن غفير قوله لوزير الحرب يوآف غالانت "كيف يمكن أن تؤكّد لنا أن الفلسطينيين في الضفة الغربية لن يقيموا الاحتفالات بإطلاق سراح أسراهم؟".
امتدّ هذا الإحساس إلى المحللين والإعلاميين باختلاف توجّهاتهم، وحتى الجمهور العادي؛ وقد كتب الباحث في معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل التابع لجامعة تل أبيب، أتيلا سومفالفي، عن الصفقة المنتظرة يعبر فيها عن ألمه "أنا أذرف الدموع بسبب أن الأطفال والأمّهات سيعودون إلى بيوتهم من جهنم، هذا مؤثّر ويزعزع النفس حقا، لكنني آسف، فما يحدث لا يمكن اعتباره صورة انتصار، إنه تذكير مؤلم لهزيمتنا في 7 أكتوبر... لقد كانت إعادتهم أمرا إلزاميا، لكنه ليس انتصارا، إننا أمام صورة تحطّم القلب من جديد، وما زال هناك المزيد ينتظرنا". وعبّرت صحيفة يديعوت أحرونوت عن إحساس مشابه، حين وضعت في صدر صفحتها الأولى، صباح إقرار الحكومة الصفقة، صور أسراها من النساء والأطفال، تتوسّطها عبارة "بقلب يرتعد؛ رغم الخطر الذي ينتظر القوات في عمق غزّة بسبب توقف الحرب". وكتب محرّر صحيفة هامشباحاه (الأسرة)، وهي صحيفة حريدية، يوسي أليطوف، "لقد كشفت هذه الحرب أن السنوار (يحيى) يعرفنا أكثر مما نعرفه، وكأنه زرع حصان طروادة في نظام التشغيل لدينا"، (في إشارة إلى قائد حركة حماس في قطاع غزّة). وهكذا تتعدّد الشهادات من الجميع، من دون إنكارٍ من أحد على المستويين، السياسي والإعلامي، وهي أكثر من أن يحصيها مقال في صحيفة.
رجل الشارع العادي في دولة الاحتلال يدرك جيدا معنى الهزيمة حين ينظر إلى صور نتنياهو، وهو يعلن عن الاضطرار للصفقة، وهو مطأطئ الرأس
كانت عبارات الجمهور العادي، في أغلبها، أكثر صراحة، وغير عابئة بتنميق العبارات، ومظهرة لفشل الدولة، وكاشفة أن استمرار الصراعات الأيديولوجية، رغم الحرب، سوف تكون سببا في تمزيق الدولة؛ وهي عبارات تتحدّث عن "أن الدولة قد فشلت وتركت الأسرى لمصيرهم، أو خانتهم، وأن الصفقة هزيمة تصلح الدولة بها خطأها"، وأن "بعد ما حدث في 7 أكتوبر لن تكون هناك أي صورة لانتصار"، وأن شروط الاتفاق "تُثبت أن وضعنا صعب من الناحية العسكرية وأن وضع حماس جيد. ولقلب هذه المعادلة يحتاج الأمر شهورا على الأقل، وربما لا يحدُث"، وأن "نتنياهو هو أكثر إنسان يفضله السنوار ليجري معه الصفقات"، وأن "الاتفاق يعيد عددا قليلا من الأسرى، ويترك أغلبيتهم"، وأن "القيادات السياسية الإسرائيلية كلها لا تستحقّ أن تكون موجودة في المشهد السياسي؛ بداية من نتنياهو، مرورا بغانتس وأيزنكوت ولبيد، وصولا إلى كل أعضاء الكنيست الـ 120، فجميعهم يجب أن يرحلوا".
ترجّح مثل هذه التعبيرات صعوبة ما ينتظر إسرائيل في أيام الهدنة الأربعة، إذا لم يتم تمديدها، أو ربما إن لم تكن مدخلا لإنهاء تدريجي للحرب يقبله الإسرائيليون. فمن المؤكّد أن توقف الحرب في هذه الأيام سيظهر حجما أكبر من الأحقاد والخلافات التي فشل الجميع في كتمان أغلبها، ومن المرجّح أن تتعالى الأصوات المطالبة برحيل نتنياهو الآن وليس غدا، وألا يترك معارضوه هذه الفرصة تمرّ، وستتركّز أنظار إسرائيليين على الفشل السياسي والاستخباري والعسكري في ظل توقف الحرب المؤقت. بمعنى أن الغالبية قد تفضّل أن يبدأ يوم الحساب مبكّرا، وليس بعد انتهاء الحرب، خصوصا وقد أدرك كثيرون صعوبة العملية العسكرية، وضخامة تكلفتها الاقتصادية، وخطورة اتساعها، وحجم خسائرها وتأثيراتها السلبية على كل مناحي الحياة، والأهم من ذلك كله خسائرها البشرية.
فشلت إسرائيل في إنجاز ما كانت تمنّي به مواطنيها من إعادة أسراها في غزّة من خلال قوتها الباطشة
ولن يكون هذا النقاش عن الفشل مقصورا على السياسيين فحسب، فمن الطبيعيّ أن يمتدّ إلى العسكريين أيضا، وأداء الجيش والاستخبارات، فما سُكت عنه وقت الحرب، لا يمكن التغاضي عنه في أثناء توقفها. فالسؤال لا يتعلق بضرورة فتح النقاش عن فشل الجيش من عدمه، بل بالتوقيت، هل يتم حاليا في وقت الهدنة، أم بعد أن تضع الحرب أوزارها. ولا يستبعد، في ظل هزيمة الأيام الأولى العسكرية، وهزيمة الصفقة السياسية الحالية، أن يختار كثيرون فتح ملفّ النقاش الآن. وربما كان كلام زعيم حزب إسرائيل بيتنا، أفيغدور ليبرمان، الذي كتبه بعد أن تواتر الحديث عن صفقة الأسرى، "نحن في اليوم الخامس والأربعين من الحرب، وقد وصلنا إلى اليوم الخامس والأربعين نتيجة التصور الخاطئ، ولهذا حدث الفشل في 7 أكتوبر. وللأسف فإن المفهوم الخاطئ نفسه ما زال مسيطرا بين القيادات الأمنية والسياسية"، وهو كلامٌ يبرهن على ميل كثيرين إلى المحاسبة فورا، من دون انتظار، كما أنه لا يحمّل القيادة السياسية وحدها المسؤولية، بل والأمنية أيضا، بما تضمّه من مؤسّسات عسكرية، في مقدمها الجيش الذي ظهر تخبّطه الواضح منذ بداية الحرب.
ثمّة تخوف آخر لدى بعض الإسرائيليين من أن تؤدّي عودة الأسرى إلى إسرائيل إلى تحمّل مزيد من الهزائم الأخلاقية؛ خصوصا بعد ما حدث من الأسيرة يوخافاد ليفشيتز، التي أطلقتها حركة حماس لظروف إنسانية، حين تحدّثت عن أخلاقيات المقاومة والمعاملة الطيبة التي تلقتها، ويوصي بعضهم بألا تقع السلطات في الخطأ نفسه من جديد. وتطالب مراسلة الشؤون الصحية في صحيفة يسرائيل هايوم، ميطال يسعور، بأن يكون هناك متحدّثون رسميون في كل مستشفى من المستشفيات التي سيوضع فيها الأسرى المحرّرون، حتى لا يتكرّر ما حدث مع ليفشيتز.
يضاف إلى ما سبق، بالطبع، مدى التأثير السلبي أو الإيجابي على الجنود الإسرائيليين المتمركزين داخل قطاع غزّة على المستوى النفسي، والجاهزية العملياتية، ومدى استفادة المقاومة من إعادة ترتيب أوراقها، وتموضعها لمواصلة الحرب بعد انتهاء الهدنة. ورغم أن هذه المسائل أمور يناقشها العسكريون، إلا أنها تُضاف إلى ما ينتظر إسرائيل من صعوباتٍ خلال أيام الهدنة ستؤدّي إلى مزيد من التفكك والضعف، وهي صعوباتٌ قد لا تقل بأي حال عن أهوال الحرب ذاتها.