صمود غزة يمهّد لمفاوضات مختلفة
تضمن اتفاق وقف إطلاق النار بين الجانب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي استعداد الطرفين لإجراء مفاوضات بينهما في غضون شهر (يبدأ في 28 أغسطس/آب الجاري) حول المطالب الفلسطينية بالإفراج عن سجناء فلسطين، وإنشاء ميناء بحري وإعادة العمل بمطار ياسر عرفات في غزة. ومعلوم أن الجانب الفلسطيني يضم أطرافاً من السلطة الوطنية ومنظمة التحرير وحركة حماس، وقد ترأسه القيادي الفتحاوي، عزام الأحمد.
وتمثل العودة إلى التفاوض، بعد تثبيت وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وتسهيل حركة عبور السلع والأشخاص وتوسيع نطاق الصيد البحري، مرحلة جديدة في الصراع بموازين جديدة.
وبينما توقفت المفاوضات بين السلطة الوطنية والاحتلال منذ إبريل/نيسان 2014، عقب اتفاقية المصالحة بين فتح وحماس، ها هي المفاوضات بين الجانبين تُستأنف بصيغةٍ مختلفة، وفي مكان آخر، وبرعاية عربية (مصرية) أيا كان الرأي فيها، إلا أن الرعاية الأميركية ليست أفضل منها. وبالمناسبة، تخلت القاهرة عملياً عن مبادرتها التي أطلقتها في بداية الحرب، وانتقلت إلى دور الوسيط. بدأت المفاوضات بشأن وقف إطلاق نار دائم، ونجحت بعد عسر شديد هذه الحلقة، وهي (المفاوضات) على وشك الانتقال إلى مرحلةٍ ثانية، قد يطرأ عليها بعض التأخير، نتيجة مناورات إسرائيليةٍ متوقعة.
ليس معلوماً على وجه التعيين إذا كانت القاهرة تكفل استئناف المفاوضات، أم أنها تكتفي بالقيام بتسهيلات للجانبين، والبادي، حتى تاريخه، أن الاحتمال الثاني هو الأرجح، غير أن التطورات يمكن أن تقود مصر إلى دور أكبر، إذا ما قيض للمباحثات بينها وبين السلطة أن تنجح، بخصوص إشراف السلطة على معبر رفح وفتحه بشكل دائم. عندها فإن الطرف المصري سيرى أن بعض الدعم للجانب الفلسطيني سوف يصب في منظور القاهرة بمصلحة السلطة التي يقودها محمود عباس، وليس لحساب حماس.
فلسطينياً، سوف يُحسب للسلطة أنها كسرت القطيعة بين حماس والقاهرة، وذلك بتسهيل وجود وفد حماس، برئاسة موسى أبو مرزوق، في القاهرة. وسوف يُحسب لحماس أنها نجحت في تصليب موقف السلطة في المفاوضات مع المحتل، وأعادت لها بعض اعتبار في أنظار الرأي العام الفلسطيني. وها هي الظروف مهيأة، بل الاتفاق قائم على استئناف التفاوض بين وفد فلسطيني موحد وحكومة نتنياهو. ولئن كانت بنود التفاوض المزمع تتعلق بقطاع غزة إضافة الى بند الأسرى الفلسطينيين، حيث يتنصل الاحتلال من وجوب الإفراج عنهم، إلا أن قيام وفد موحد تقوده السلطة عمليا بالتفاوض يعني أن المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية تتجدد.
ومن وجهة نظر فلسطينية، فإن القيام بذلك يعني رفض تشطير الوطن بين ضفة غربية وقطاع غزة، وتجديد التوحيد السياسي والوطني لجناحي الوطن والشعب. وإن كانت حماس والسلطة قد أخفقتا في طرح مطالب تتعلق بالضفة الغربية المحتلة، مثل المطالبة بوقف الاعتقالات والاجتياحات الدورية، وخصوصاً في المناطق التي يُفترض أنها تخضع لسيطرة السلطة (مناطق أ). علماً أن حماس رفعت هذه المطالب في بداية الحرب الأخيرة. وإلا كيف يتعهد الاحتلال بوقف الاعتداءات والغارات على القطاع، حسب الاتفاق، بينما تظل يده طليقة في الضفة الغربية، هل يتطلب الأمر إطلاق صواريخ من الضفة على تل أبيب ومطار بن غوريون، لكي يوقف الاحتلال ومستوطنوه تعدياتهم الدائمة، كما تعهد بإيقافها على غزة؟
لقد تضمن الاتفاق، بين ما تضمنه، إشراف السلطة على المعابر بين قطاع غزة والضفة الغربية، وهو إشراف يقوم في عرف الاحتلال على تنظيم دخول الفلسطينيين من قطاع غزة، قبل خضوعهم للتفتيش والتدقيق الإسرائيلي.
من واجب السلطة، في هذه الظروف، المطالبة بإنشاء معبرٍ يشرف عليه الجانب الفلسطيني، بما يتعلق بانتقال الفلسطينيين بين القطاع والضفة الغربية، والتخلي عن دور مكتب ارتباط وتنسيق، يمثل عملياً دور سكرتاريا للشرطة الإسرائيلية. والعودة في ذلك إلى نصوص اتفاق أوسلو (إعلان المبادىء 1993) بإنشاء ممر يؤدي إلى الضفة الغربية مباشرة من دون توقف في الأراضي "الإسرائيلية"، أو الوقوف في وجه الاعتراضات، وإعادة العمل بالمطار في غزة، والتفاوض بشأن تسيير رحلات جوية من غزة إلى الضفة.. إلى مطار قلنديا قرب القدس، أو إلى مطار يقام في أريحا، وذلك لتفادي المرور عبر أراض إسرائيلية، بما يعيدنا إلى مقولة غزة أريحا أولاً!
الأمر بحاجةٍ من السلطة إلى قليل من الخيال، ومثلها من الشجاعة السياسية، لإنجاز اختراق سياسي جزئي، يقطف الفلسطينيون ثمراته، ويحفظ كرامتهم، ويصلح للبناء عليه، واستكمال انتزاع الحقوق الثابتة.
الحديث، هنا، ما زال عن تجدد المفاوضات في مناخ جديد، مناخ تجدد الثقة بالذات الوطنية والقدرات الذاتية، والتجاوز الفعلي للانقسام، وإن بأجندةٍ محدودة وضيقة، لا تشمل البحث عن "سلام دائم وتسوية شاملة". وفي البال أن المفاوضات السابقة ظلت عقيمة، ولطالما اصطدمت بعنصرية إسرائيلية، وبأطماع يعجز المحتل عن كتمانها أو التوقف عن تنفيذها مستسلماً لدينامية الشر. فيما يعجز الراعي الأميركي عن ممارسة أي ضغط على الاحتلال.
الآن، ومع الدخول في مرحلة جديدة، من واجب حماس وبقية القوى السياسية رفع الصوت وتنظيم الجهد السياسي، من أجل إنهاء الاحتلال الاستيطاني والعسكري للضفة الغربية، وحرمان المحتل، ومعه بعض القوى الدولية، من التعامل مع غزة قضية قائمة بذاتها ومنفصلة عن الأراضي المحتلة. والانتقال من ذلك إلى تأييد الدخول في مفاوضاتٍ لإنهاء الاحتلال، وليس تحت ذلك العنوان السياسي المتهافت والبائس: إقامة دولة فلسطينية.
وسوف يرتدي النجاح في استكمال حلقة الإنجازات لقطاع غزة أهميته الاستراتيجية في الربط الوثيق بين جناحي الوطن والشعب، وما تحقق في غزة على صعيد تراجع الاحتلال وطي المستوطنات، يتعيّن أن يتحقق في القدس والضفة الغربية، من أجل سلام يستحق اسمه. هذا هو العنوان الصحيح للحلقة الثانية من المفاوضات، والذي يصلح أن يرفعه محمود عباس ويلتزم به، ويعمل بمقتضاه قبل أن يتقاعد.