صورة القرن: لعنة الدم الفلسطيني
يحمل الصبي الفلسطيني جثّة الطفل ملفوفةً في ما يُعدّ كفنًا ويبحر مترجّلا في مياه السيول، تحت قصف الطائرات الصهيونية، ليس في صدر الولد متّسع للعنات يصبّها صبًا على الذين تخاذلوا وخذلوا، والذين تواطأوا وصمتوا، فكلّ المساحات مخصّصةٌ لدعواتٍ بالجنّة للشهيد الصغير، ودعوات بالعثور على مكان لدفنها، ودعوات أخرى بأن يمنحه الله القدرة على الوصول إلى ذلك المكان قبل أن تُغرق السيول الجثة، وقبل أن تطاردها غارة صهيونية جديدة فتمزق الأشلاء إلى أشلاء أصغر.
هل هو الولد الذي يحمل جثة أخيه أو أخته الطفلة، هائمًا بها على وجهه، أم هو الفلسطيني الصامد في غزّة يحتضن قضيّته وحلمه بالتحرّر إذ يمضي وحيدًا في طريق تتكدّس على جانبيها تلالٌ من الخذلان وقطعان من المتواطئين والشامتين، والذين يزعمون إنهم إخوته، متدثرين بعجزهم يتفرّجون عليه، فيما تنقضّ أسرابٌ من الطيور الجارحة تنهش رأسه وتنهش الجثة التي يحملها؟
هي صورة تلخّص كلّ شيء وتحكي مأساة الفلسطيني كاملة من ألفها إلى يائها، كما تختزل الموقف العربي في عمومه، طوال قرن، من عشرينيات القرن الماضي حتى عشرينيات القرن الحالي، حيث لا شيء هناك سوى المشاهدة، مع تمتماتٍ خجولةٍ قد تكون حوقلًة أو حسبنًة أو لومًا للضحية عند أولئك العرب المصطفّين مع الرواية الصهيونية ومنطقها، والذين ينتظرون بشوقٍ، ويحرّضون بحرقة على أن ينقلب الشعب الفلسطيني على مقاومته، وأن يتنكّر لحلمه، ويتخلّى عن حقّه التاريخي بأرضه.
مثيرة للدهشة والقرف تلك الحالة من الاستبسال في صفوف المتصهينين العرب، الذين يناضلون من أجل الحصول على لقطةٍ واحدةٍ لإنسان فلسطيني في غزّة يتنكّر لمقاومته أو يصب غضبه على المقاوم، لا على المعتدي الصهيوني، إذ لا يملّ هؤلاء من مضغ الوهم برقاعة لعوب محترفة، ذلك الوهم الذي يقول إنّ الشعب الفلسطيني يضيق بمقاومته ويحمّلها المسؤولية عن الهولوكوست المشتعل في غزّة منذ 70 يومًا.
طوال أيام العدوان، لم نسمع صوتًا فلسطينيًا واحدًا في الداخل أو في الخارج ضد المقاومة، حتى محمود عبّاس وتابعوه لا يملكون الجرأة أو الوقاحة للذهاب إلى حيث يريد المتصهينون، أنّ الشعب يريد النجاة حتى لو كلفه ذلك إعلان كفره بالمقاومة.
سواء في غزّة أو في مدن الضفة الغربية، يعلن هذا الشعب كلّ يوم أنّ المقاومة منه وهو منها، حتى الأسرى المحرّرون بمقتضى الهدنة السابقة من مواطني الضفة خرجوا من سجون الاحتلال يهتفون باسم محمد الضيف ويحيى السنوار على بعد خطوات من مقر محمود عبّاس.
يؤكّد العدو الصهيوني نفسه كلّ يوم أنّ كلّ فلسطيني هو عدوّ، يستوي في ذلك الحمساويون والفتحاويون والجهاديون والشعبيون، يقولها نتنياهو كما يقولها الجنرالات، ويطبّقونها الآن عمليًا في جنين ونابلس: الحرب على كلّ فلسطين، والخطر والرغبة في تدمير إسرائيل يأتيان من "فتح" كما من "حماس"، تلك هي عقيدة الصهيوني من اليمين إلى اليسار.
وحدهم المتصهينون العرب يراهنون على إمكانية إحداث حالة انقسامٍ فلسطينيٍّ على المستوى الشعبي، فيسلكون في بثّ سمومهم على نحو يتجاوز ما تفكّر فيه آلة الدعاية الإسرائيلية، التي تلقي برسائلها المكتوبة فوق الجماهير في غزّة، تبلغهم فيها بأنهم إذا أرادوا الحياة فعليهم أن يتحوّلوا إلى عملاء يبلغون عن المقاومين ويلعنون المقاومة.
هي الرسائل ذاتها التي يروّجها فيلق المتصهينين الذين يبيعون بضاعة فكرية فاسدة تصوّر فصائل المقاومة أنّها نبتة غريبة على التربة الفلسطينية، أو أنها تعمل لمصلحة أطراف إقليمية.
لن يفهم هؤلاء السفلة أنّ كلّ الأطراف، سواء في خذلان الشعب ومقاومته، وأنّ لعنة الدم الفلسطيني سوف تصيب الجميع، العرب الذين يزعمون إنّهم أشقاء، والأطراف الإقليمية الأخرى التي لم تقدّم لهم إلا الكلام، ستحلّ لعنة الدم في غزّة على الكل، الذي تآمر والذي سكت عن المؤامرة، والذي جبن عن القيام بفعلٍ محترمٍ لإيقافها، باستثناءاتٍ محدودة في لبنان واليمن والعراق.