صور وكلمات
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
صورة فوتوغرافية عُمانية قديمة بالأبيض والأسود، تعود إلى عقد الثلاثينيات، يجري تداولها هذه الأيام تزامناً مع أحداث الحرب على قطاع عزّة، تظهر فيها سيّارة رباعية الدفع وصلت إلى السلطان سعيد بن تيمور من فلسطين، عن طريق البحر، وقد اجتمع طابورٌ طويلٌ من البشر من أجل حملها إلى اليابسة، وهم يرفعون دشاديشهم ويحزمونها بخواصرهم، قبل وصولهم إلى الماء، حتى لا يعترضهم البلل. كان مصدر الصورة سيبقى مُبهماً لو لم ترافقها كلماتٌ وأهازيج شعرية عاميّة من تأليف الشاعر المرحوم جمعان ديوان، يقول فيها: "حباب جاب موتر صنعته من فلسطين/ باشله فوق راسي لجل ما يلمس الطين". ويمكن تقريب المعاني على النحو الآتي: "سيدي أتى بسيارةٍ صناعتها جاءت من فلسطين/ سأحملها فوق رأسي لكي لا يلمسها الطين".
لا يمرّ يوم من دون أن نعايش انشغال الناس بغزّة وما يحدُث فيها من آلام. الجانب الإنساني هو الأكثر حضوراً ومبعثاً للأسى. لذلك يقترن هذا الانشغال عادة بالدعاء، خاصّة أننا في شهر الصوم. هذه الأعداد الغفيرة المحاصرة من البشر من دون توفّر أدنى شروط العيش الطبيعية، معرّضة فوق ذلك لمفاجآتٍ مفتوحةٍ على العنف والقتل. والظنّ أن ضمير العالم لن يتصالح بسهولة مع الكيان المحتل، بعد ما رأينا وسمعنا من صرخاتٍ وآلام موثّقة. من ناحيتي، أقضي الكثير من الأوقات في تتبع نشرات الأخبار وقراءة المقالات التي في معظمها تدور حول الموضوع الفلسطيني في لحظته الراهنة، وكذلك حين أقلّب صفحات "فيسبوك"، فإن الصدمات تتوالى وهي تعرب عن مشاهد مؤلمة خاصة فيما يتعلق بالأمومة والطفولة من تجويع وقتل وأمراض وتكدّس مأساوي، لم يشهد له التاريخ مثيلاً بهذه الكثرة والتواتر والتصوير الحي المباشر. في العمل في المستشفى أو في الأسواق، حتى وأنت تمشي لا بد أن تكون غزّة حاضرة. أتذكر منذ أيام كنت أتريض في الليل حين قابلت جاراً لي، فاقترحت عليه أن نمشي معاً، فإذا بموضوع غزّة يقفز إلى مسرح الحديث، والغريب أنه قال لي، وهو شخص لا علاقة له بالكتابة واهتماماته القرائية متوسطة، إنه يتمنى أن يكتب مقالاً بعنوان "العار العربي الكبير"، على وزن عبارة "العالم العربي الكبير"، متذكراً الأبيات "النوستالجية" التي حفظناها في طفولتنا "بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدان". كان أكثر ما آلمه أن العرب، رغم ثرواتهم وخيراتهم وقوى ضغطهم، عاجزون حتى عن تزويد إخوانهم في غزّة بالطعام والدواء، فضلاً عن حمايتهم والذود عنهم، في حين أن دولاً بعيدة، مثل جنوب أفريقيا والبرازيل، اتّخذت مواقف أكثر نبلاً، وتحرّكت ضمائرهم صراحة. أتذكّر في التسعينيات محاضرة للمفكر محمد عابد الجابري في مسقط، استهلها بقوله إنه جاء من الرباط على متن طائرة خطت به طولياً إلى مسقط، وعبرت بلداناً جميعها عربية. للأسف، الجغرافيا واحدة، ولكن القلوب شتّى، وهذا ما لم ينتبه إليه العرب بعد، ما سهّل أكلَهم وتمزيقَهم كلٌّ على حدة.
لم تعد تستهوي كثيرين الآن، وكاتب هذه السطور واحدهم، قراءة الكتب المترجمة من الفضاء الأوروبي. كتبت أخيراً الكاتبة العمانية أمل السعيدي، في عمودها الأسبوعي في صحيفة عُمان، مقالاً بعنوان "القراءة في زمن الحرب"، جاء فيه: "منذ بداية الحرب وعلاقتي مع القراءة تغيّرت كلياً، مثل كل شيء آخر. لم أكن وحيدةً في هذا، الكثير من الأصدقاء شاركوني الفكرة نفسها، ومع تطرّف الغرب في تبنّي موقف يحول دون إيقاف الإبادة الجماعية في غزّة، لم نستطع قراءة كتب قادمة من هناك". إذاً، هذا نوعٌ من المقاطعة يضاف إلى مقاطعات سلع داعمة للكيان المحتل، ونوع من المعارضة لما يحصل، وتبنّي موقف جديد يمكن تسميته بالعزوف عن قراءة "الآخر" المشارك في حرب الإبادة بطرق شتى. هذا الأمر سيدعونا إلى اكتشاف أنفسنا وقدراتنا العربية، لأنه ليس كل شيء قادم من الغرب بريئاً وشفّافاً، بما فيه الأدب والفكر، اللذان يفترض فيهما النزوع الخالص نحو الإنسان والإنساني، ومثالنا على ذلك المفكّر الألماني يورغن هابرماس، والروائي المغربي الطاهر بن جلون، اللذان كان يُحتفى بهما كثيراً في فضاءاتنا العربية، لا أظنّهما الآن سيحظيان بالقدر نفسه من الاهتمام. ستكون النظرة إلى إنتاجهما باردة وسلبية، لأن جانبهما الإنساني فقير ومتصحّر، وربما بلا رجعة.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية