ضدّ الديمقراطية
في الباب الثاني من "العقد الاجتماعي"، يواصل جان جاك روسّو رصف الأرضية الفلسفية المُبرّرة لبنود العقد الاجتماعي، من ناحية إلزاميته. يطرح أرضية لهذا المدار، أنّ الإرادة العامة المُمثّلة لسكان الدولة كلّهم، وخاصة في النمط الجمهوري، تفرض سيادتها من جهة قيامها على المشترك المصلحي المُطلق، أي مصالح أعضاء الجماعة الوطنية كلّهم، وهم الشعب بشرائحه كافّة. وعلى الأقلّ، في حالة فرنسا، فإنّ هذا الميزان ليس محلّ إجماع، وتغوّل هيئة السيادة التنفيذية، وهي رئاسة الدولة والحكومة، لا يمنحها النزاهة.
ليس لشرائح الشعب المتعدّد القوميات، في مستعمرات فرنسا السابقة، فقط، ولكن حتى الشرائح الرئيسية، أي ذات الأصول الغربية الاجتماعية، نسجل هذه النقطة، بحكم أنّ هيئة الحكم، التي شرّع روسو لقيامها تحت سيادة الإرادة العامة، قد تُمارس دوراً قهرياً، ليس من خلال تمثيلها المصالح المشتركة للجميع بوصفها مبادئ راسخة، ولكن عبر التفويض الانتخابي، حتى بعبوره من خلال فارق أصوات ضئيل. استدعاء هذا الأمر مبرّر لأنّ فرنسا، الوريث الأبرز للعقد الاجتماعي، تحتجّ بالنظام الجمهوري في قمع السترات الصفراء والأقليات، وتتحول الحكومة فيها إلى مركز للسيادة، وهذا يُخالف فلسفة روسو، فالسيادة المطلقة يجب أن تعود للشعب.
ينتقد روسو أيّ مفهوم لتقسيم السيادة، ويرى أنّها محصورة في الإرادة العامة
يقودنا هذا المآل إلى إشكالية النفع العام والمصلحة الجماعية، التي أسّس عليها روسّو فصل الإرادة الخاصة عن الإرادة العامة، فالإرادة الخاصة المُمَثّلة للفرد سوف تتنوع، وقد تتصادم، بينما تجمع الإرادة العامة ما توافق عليه أعضاء الجماعة الوطنية، وهي مع توازنها، لأنّ القانون العام يُحدّد الإطار المشترك للمصلحة، ويفصل في الخلافات. لكنّ مرجعية هذه المصلحة تعود إلى التصادم في قاعدة السيادة الكبرى، وهو إجماع الشعب المتعذّر، وبديله هو الغالبية الساحقة. نقطة الفراغ هذه تبرز في مراجعة الواقع السياسي الغربي بعد أكثر من قرنين على العقد الاجتماعي، وفي حين تتأكد فرضية المصلحة العامة، وكلّ مساحة تحقّقها الديمقراطية المُقترحة من روسو، فإنّ جانبها الآخر هو كتلة المرجعية الصلبة لتقدير هذه المصلحة، وفارقها في المصدر الإسلامي الحقيقي لا المزور الموروث من المستبدّ القديم، والمستبدّ الجديد، هي عودة الهيئة المُمَثّلة للسيادة إلى مصدر تحديد مصالح الخلق عبر الوحي والتشريع، الذي يتجاوز الأطماع أو الحقوق الفردية، هذا هو الفارق الإسلامي، لكنّه فارق أخلاقي حين تتجلى فيه أركان الحكم والتمثيل البرلماني بالورع والنزاهة، وليس من خلال فرض الشهوات والظلم باسم الحق الإلهي، فهنا تكون الإرادة العامة مُؤيّدَة بمفاهيم كبرى للمصالح تراقب ممثّلي السيادة المُفوّضين.
لكنّ روسّو ينتقد بشدة أيّ مفهوم لتقسيم السيادة، ويرى أنّها محصورة في الإرادة العامة، أي التفويض الشامل، ويُعارض أن تتوزّع صلاحياتها بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية (البرلمان)، ويسخر من ذلك، ويراه جسراً لـ"سياسيّينا"، كما يصفهم، لإخضاع السيادة لأغراضهم، ويضرب مثلاً بالشعوذات القديمة المنقولة عن اليابان، حيث يقطّعون الطفل أجزاءً ثم يرمونه في الهواء، فينزل إلى الأرض حيّاً. يرفض روسّو هذه الأطر الديمقراطية الهشّة. يضع هذه المعارضة الشديدة تحت فصل "امتناع اقتسام السيادة"، وهو ما يعني أنّه يعارض في فلسفته تطبيقات العهود الغربية للمفهوم الديمقراطي (الحالية)، وينتقد الفيلسوف هيغو غروتيوس الذي جرّد، برأيه، حقوق الشعوب في كتابه حول العقد الاجتماعي "قانون الحرب والسلم" (1625)، الذي قدّمه إلى لويس الثالث عشر، ويتهمه روسو بأنّ كتابه كان مدخلاً للحصول على مكانة مميّزة عند الملك، لأنّه كان غاضباً على موطنه الأصلي. هنا يطرح روسّو سياقاً مهماً في التحقيق التاريخي لمدوّنات العقد الاجتماعي الأولى، وظروف صدورها.
قرّر روسّو أنّ الإرادة العامة ممثلة للخيريّة المُطلَقَة، لكنّ ممثليها، أي المفوضين من الشعب بانتخابهم، لن يكونوا كذلك
قرّر روسّو أنّ الإرادة العامة ممثلة للخيريّة المُطلَقَة، لكنّ ممثليها، أي المفوضين من الشعب بانتخابهم، لن يكونوا كذلك، فتحوّل الأعضاء الممثلين إلى كتل سياسية صغيرة يفتت هذه الإرادة، لذلك يرى أنّه لو كانت هناك مساحة لخيمة تشاور تمثّل هذه الإرادة من دون تمثيل انتخابي (ديمقراطي)، أي أعضاء ينتمون لجماعاتهم الصغيرة، فهي أولى من قبّة البرلمان. وهذا سياق مهمّ يُحرر فيه روسو مبكراً أنّ السلطة التشريعية لن تحقّق بالضرورة مِنْعَة الشعب وحقوقه، وضمان حماية الإرادة العامة، التي تشمل الشعب كلّه. بل دعا إلى أن تُفتح المساحة ليعطي كلّ مواطن رأيه، إن استطاع ذلك، فهذا أولى لضمان عدم انقسام كتلة المشرّعين، مستدلاً بمُشرّع إسبارطة ليكورغوس (630 ق.م)، وما يعنينا هنا أنّ التحريرات القديمة في سبيل تحقيق ضمان السيادة للقاعدة العامة للشعب أساساً يقوم عليه التعاقد الاجتماعي، ومن ثمّ تداول السلطة، تعتريها اضطرابات عديدة في ضمان نزاهة القوة التشريعية أمام مصالحها المتفرّقة أو نزواتها. وهي أسئلة من المهم أن تُستدعى اليوم، بعد فشل أطر ديمقراطية عديدة، انقلب فيها صراع الأجزاء في قاعدة الإرادة العامة إلى مدخل إلى الفساد، وإلى الصراعات والانقسامات، وجاء حديث روسو في إطار البحث الأول، لضمان حماية الحقوق لصاحب السيادة المفترضة: الشعب، وهو استباق مُبكّر يُحسب له. لكنّه يعيدنا إلى السؤال الكبير، ما هو البديل عن التمثيل التشريعي، وهل نحن أمام حالة فشل كامل لمقدمات الديمقراطية أو مؤسّساتها؟ أم نحتاج إلى ضمان الحقوق المطلقة بوسائط، لا تقف عند عجل الديمقراطية ولا صنم المستبدّين وخوار أنصارهم؟