ضربة خالد الحروب
لقائلٍ أن يقول إن ثمّة تزيّدا في وصف كتاب الأكاديمي الفلسطيني، خالد الحروب، "النقد الناعم للصهيونية والرواية التوراتية في كتاب روحي الخالدي "السيونيزم"" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021) بأنه من أهم الأحداث الثقافية العربية في العام الجاري (2021). ولكن هذه المقالة تفعل هذا، ويَجْهر به كاتبُها في مفتتح سطورها. ما لا يعود إلى "حقائق" جلّاها صاحب الكتاب، ولا إلى جديدٍ أضافه، فإذا كان من حقائق أو جديدٍ في هذا الكتاب، قليل الصفحات من القطع الصغير، (96 بالفهرس وكشف المصادر والمراجع)، فإن أهل الاختصاص في موضوعيْه، الصهيونية وروحي الخالدي، هم الأقدر على التسليم بهذا أو نفيه، بل إن هؤلاء، في المبتدأ والخبر، هم الأدرى بمقادير الصحّة، قلّت أو كثرت، في المضمون العام للكتاب، في المعلومات والإحالات والمعطيات (الكثيرة للحق) فيه، من كاتب هذه المقالة المتعجّلة، والذي لا ينتسب إلى أهل الأكاديميا والبحث والتحقيق. إنما يتم الذهاب هنا إلى الأهمية الخاصة لهذا الكتاب (أو الكتيّب؟)، وتجعله حدثا ثقافيا خاصا، لأنه يفعل ما هو شحيحٌ في اللحظة الثقافية العربية الراهنة، النقد العلمي وإعلاء الروح السجالية في البحث الأكاديمي الجدّي والرفيع. ولا يعني هذا الكلام، بما قد يُستَشعر فيه من إطلاقيةٍ، غيابَ جهودٍ بحثيةٍ ذات قيمةٍ عالية في المنتوج الأكاديمي العربي الراهن، وإنما الكلام هنا مخصوصٌ في موضع الجهد النقدي، السجالي، الذي يستخدم مبضع المحقّق، المنشغل بالمعلومة المؤكّدة، ويكدّ في استبصار مصادرها ومظانّها. وفي ظن صاحب هذه الكلمات أن هذا نادرٌ في المشهد المعرفي العربي العام، فالسجالات الماثلة قدّامنا، على قلّتها، وعلى تواضع كثيرٍ منها، مشحونةٌ غالبا بالسياسة والأيديولوجيا والمواقف المسبقة. والحادثُ أيضا أن مثقفين عربا يجتهدون في إصداراتهم الفكرية، وبعضُها نوعيٌّ وجديدٌ حقا، ثم لا تلقى طروحاتُهم واجتهاداتُهم ما يلزم من مساجلاتٍ واشتباكاتٍ ومناقشات، بل وأخذٍ وردٍّ ضروريين. هي بضع ملاحظاتٍ متسرّعة، ومطالعاتٌ مسلوقة، وتعليقاتٌ عارضة، ومدائح أو نقائضها بحسب اصطفافات معلومة، فتصير النقدية العلمية الملحّة في الراهن العربي ضحيةً ظاهرة.
لأحدٍ أن ينقض الكلام أعلاه بالتذكير بأن الحروب يُساجل مخطوطةً، كتبها صاحبُها بين سنوات 1908 و1913 سنة وفاته، صارت كتابا نشر أخيرا "السيونيزم أي المسألة الصهيونية: أول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية" (محمد روحي الخالدي، تحرير وتقديم وليد الخالدي، بيروت والقدس، مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمكتبة الخالدية، 2020)، ما قد يعني أن الكاتب لا يخوض في جهدٍ مستجدّ، فلا يستحقّ "المبالغة" التي تصدّرت سطور هذه المقالة (وُصفت أعلاه بالمتعجّلة). والردّ هنا أن صنيع صاحبنا الأستاذ الجامعي يخصّ، في واحدٍ من وجوهه، إصدار المخطوطة على النحو الذي فعلته مؤسّستان مقدّرتان، وكذا تقديم الباحث والمؤرّخ وليد الخالدي وتحريره، وقد حفلا بأغاليط ونواقص ليست قليلة، وبمدائح غير مستحقّة للمخطوطة التي يرى الحروب أنها لم يكن ينبغي أن تُنشر، سيما بالعنوان الفرعي الذي خَلَع عليها أنها "أول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية"، وقد اشتغل صاحب "وشم المدن"، بهمّةٍ ومثابرةٍ ظاهرتيْن، على نقض صفتها علميةً، ليصل إلى أن "اختلالاتٍ" فادحةً تضرب علميّتها، وإلى أن "أخطاء كثيرة" فيها تنزع عنها هذه الصفة، وتضرّ بمكانة المؤرّخ والكاتب الرصين، روحي الخالدي. فضلا عن أنها ليست الأولى عربيا في موضوعتِها، وقد دلّل خالد الحروب، بمجهودٍ بيّن، على أن صاحب المخطوطة إنما كتب نقولاتٍ وفيرةً عن كتابٍ سابقٍ لنجيب نصار (توفي في 1947) الذي اعتمد أصلا على "الموسوعة اليهودية".
لأن كل إيجازٍ مخلّ، فإن المقصد هنا ليس الإتيان على مضامين الكتاب ووضوح أفكاره وليونة لغته (وإنْ ثمّة هناتٌ هيّنات، لغوية وإملائية وتحريرية)، وإنما المقصد هو التنويه بكتابٍ يؤدّي مؤدّاه ضد الصنميّة الفكرية والثقافية التي يحدُث أن ترفع رموزا ثقافيةً وسياسيةً إلى ما فوق النقد، وقد صنّف الحروب جهده في هذا الموضع، وأصاب، على ما يجد قارئ هذا الكتاب المكثّف في إيحاءاته ومعلوماته، والشديد الأهمية في الضربة التي يُشهِرها في فضاءٍ ثقافي عربي، تضعُف فيه السجالية النقدية المشتهاة، والروحية العلمية التي لا تبخّس قيمةً مقدّرة، ولا تُعلي منجزا متواضعا مهتزّا. وقد حضر كثيرٌ منهما في الذي صنعه خالد الحروب، ويُهديه إلى "المؤرّخ والمعلم" وليد الخالدي.