07 نوفمبر 2024
ضوء على فهد الفانك
ليس الكاتب الصحافي الأردني، فهد الفانك، اسما عاديا في كتابة العمود في الصحافة العربية. قد يكون هذا القول مفاجئا لزملاء عرب كثيرين، لأن قليلين منهم يعرفون اسمه، والأقل هم من قرأوا له، ما يعود إلى أن الرجل لم يكتب في غير الصحافة الأردنية، المحدودة الذيوع، وإنْ صارت له بعض الشهرة، في مقطعٍ زمني قصير، لمشاركاته في برامج حواريةٍ في بعض الفضائيات، إلا أن كثيرين من أهل الكتابة الصحافية في العالم العربي أدنى كعبا منه، وأقلّ كفاءةً من قلمه، حازوا شهرةً عريضة، فيما لم يُحرز مثلها خارج حدود بلاده، ولم يكن يكترث بهذا الأمر، ولم يجده يوما مبعث امتعاض. وبينما كانت منتدياتٌ وتظاهراتٌ إعلاميةٌ عربيةٌ تنعقد دوريا، وتقيم مهرجانات التكريم لأسماء كثيرة في الصحافات العربية، فإن أحدا منها لم يلتفت إلى فهد الفانك، وإلى القيمة العالية لمقالته، على صعيد الكتابة نفسها ابتداءً. وهذا رحيله أمس، عن 84 عاما، مناسبةٌ للتأكيد على الحقيقة المجهولة هذه، وموجزُها أن فهد الفانك أستاذٌ ومعلمٌ في كتابة العمود الصحافي، الموحي المكثّف، المستفزّ، الشجاع في قلة اكتراثه برضا القارئ، المستند دائما إلى الأرقام والإحصائيات، باللغة الميسورة، الماكرة أحيانا، والمشدود البناء، والقصير بلا زوائد أو إنشاء، واليقظ في متابعة الجديد. ولشدّ ما كان الفانك يُغبَط على الحيوية الفائضة في شخصه، وعلى لياقة أفكاره في شؤونٍ غير قليلة، وعلى حضوره الدائم (الدائم تماما)، إذ لم يغب عموده اليومي (رؤوس أقلام) في صحيفة الرأي، طوال 32 عاما، ولا مرّة، فقد كان يوفر تعليقاتٍ كافيةً في أسفاره. وفي أرشيف سيرته أنه لما كانت الحكومات تمنعه من الكتابة (في أزمنةٍ انقضت) كان يكتب بأسماء مستعارة.
لا يستقيم هذا التقريظ لكتابة فهد الفانك هنا مع مزاج أصدقاء عديدين لصاحب هذه الكلمات، وبداهةً لن يستطيبه أردنيون غير قليلين، بل ها أنا أكتب الآن إنها مرات قليلة اتفقتُ فيها مع قناعات الرجل وأفكاره، لكن الإعجاب بذهنيته التحليلية وكيفيات طرحه أفكارَه أمرٌ آخر. وفهد الفانك، أولا وأخيرا، كاتبٌ غير شعبي، لا يهمّه أن يصفق له قراؤه، فهو لا ينظر إلى مهنة الكتابة كما الغناء في حفل راقص، لا أبدا. ولذلك، ليس أمثالُه كثيرين، وأسأل هنا: كم هم كتّاب الرأي في الصحافة في العالم من يدافعون عن رفع الأسعار؟ أحدهم فهد الفانك الذي يجهر بدفاعه عن الحكومة وقراراتها في فرض هذه الضريبة أو تلك، ورفعها أسعار هذه السلعة أو تلك، إن كان مقتنعا بذلك. ولطالما فعل هذا. غير أنه لا يرحم الحكومة نفسَها من نقده، إذا رآها تستحقّه. وبينما يدافع عن توقيع الأردن معاهدة سلام مع إسرائيل، فإنه لا يرى موجبا لأن تكون للحكم في بلاده وصايةٌ هاشميةٌ على المقدسات في القدس. أما عن السياسات الأميركية فلم يقصّر الفانك في رميها نقدا وانتقادا، وظل، في الوقت نفسه، هازئا بأفكار اليساريين الشعبويين والحزبيين الإنشائيين. وقد أخذته نقمته الواسعة على احتلال العراق، وعلى حكام هذا البلد بعد عام 2003، إلى مقادير من التعاطف غير الخفي مع نظام صدام حسين، وقد كان بعثيا في شبابه.
ومع دفاعه الدؤوب عن الدولة الأردنية، وعن الحكومات والنظام العام، إلى درجةِ تصنيفه، أحيانا، في منزلةٍ ضد الناس، وقد أخذه حالُه هذا إلى أن يُرمى بالإقليمية، وهو الذي طالب بعدم مشاركة أبناء المخيمات الفلسطينية في الأردن في الانتخابات النيابية، لكنه حافظ على قناعته بإقامة دولة فلسطينية، ولم يسقط أبدا، في أي مرةٍ، في إسفافٍ عنصريٍّ أو تعالٍ فوقي، وإنما احتمى بكثيرٍ من الرصانة والروح السجالية، مدفوعا دائما بما كان يراها مصلحة الأردن، والتي جعلته أخيرا يلحّ على عدم استقبال مزيدٍ من اللاجئين السوريين، وهو الذي لم يتحمّس لثورات الربيع العربي.
يقع فهد الفانك في قناعاته هذه، وكثير مثلها، في مطارح مضادّة لقناعات كاتب هذه السطور، غير أنه في المقابل أحد الأساتذة المعلمين في كتابة العمود الصحافي، والذين أفدت منهم كثيرا، فأنت قد تكون مع الديمقراطية، وتعجبك مقالةٌ ضدّها جيدةُ الكتابة. وهذا مهمٌّ في عملنا في الصحافة، وفي صحافة الرأي والتعليق خصوصاً.