طائرات كاستنر في سماء غزّة
لحظات التاريخ المهيبة نادرة في تاريخ الإنسانية، ومع طي صفحة الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي، بدا لكثيرين أن البشرية ودّعت ما هو "مهيب" وتستقبل ما هو "معتاد" حيث لا سحر فيه ولا جلال، لكن فلسطين المحتلة (المباركة) ما تزال تضع الإنسانية أمام المهيب والجليل، استشهادًا وصمودًا وانتصارًا، ويقينًا وإباءً و... ... وتعجز الكلمات!
ومع منعطف "طوفان الأقصى"، تشتعل حربٌ موازية هي حرب "السرديّتين"، ولا تخلو من مفارقات كبيرة. وأولى مفارقاتها أن المظاهرات التي تشهدها عواصم في أقصى أطراف المعمورة ليست ثمرة مئات المنابر الإعلامية ذات الإنفاق الأسطوري التي تحمل السردية الفلسطينية (العربية/ الإسلامية). والمفارقة الثانية أن الأصوات الصهيونية – الرسمية وغير الرسمية تنبح بأعلى صوت تعبيرًا عن ألمٍ قاسٍ تتسبّب فيه هذه الأصداء العالمية للسردية الفلسطينية (رغم تواضع الإمكانات وقلة المنابر) في مواجهة ماكينة تضليل صهيوني جبّارة تمتدّ أذرعها الأخطبوطية لتشمل خريطة العالم كلها تقريبًا، فضلًا عن الميزانيات الكبيرة التي تنفقها جماعات الضغط الصهيونية في عواصم غربية عديدة.
أحد الخطابات التي استوقفتني خطاب "اتهامي" وقح للعرب والمسلمين بأنهم "يشيطنون" الصهيونية ودولتها بالأكاذيب، وأحد الأمثلة التي أذهلتني إنكار متبجّح للعلاقة، التي أصبحت مؤكّدة، بين الحركة الصهيونية والنظام النازي، والصفقة الإجرامية التي توافق عليها الطرفان على حساب دماء اليهود.
وقد أصبح الصهيوني المجري رودلف كاستنر أحد أهم معالم هذا التحالف الذي ينكره الخطاب الصهيوني من دون حياء، وفي إطار "حرب السرديات" الموازية للمواجهة العسكرية، عاد محلّلون وسياسيون صهاينة إلى ترديد الأكذوبة، مترافقة مع أكاذيب أكثر فحشًا عن خرافة "الإرهاب الفلسطيني" وما يعتبره الصهاينة رافدًا نازيًا له.
حقيقة الصهيونية أصبحت اليوم أكثر انكشافًا للملايين في مشارق الأرض ومغاربها
وبعد مرور أكثر من 60 عامًا على اغتياله "الغامض" (3 مارس/ آذار1957)، ما يزال مقتله، كما كانت حياته/ ثقبًا أسود في تاريخ الصهيونية، وفي تاريخ دولتها. وقبل سنوات، تقدَّم المؤرذخ نداف كابلان بالتماس إلى المحكمة الإسرائيلية العليا لمنحه حقّ الاطلاع على مستندات القضية، مطالبًا بشرح أسباب استمرار حظر النشر عن هوية عملاء الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) المتورّطين في اغتيال رودلف كاستنر، في قلب تل أبيب. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، ديفيد بن غوريون، أصدر (5 أبريل/ نيسان 1957)، أمراً بحظر نشر هوية عملاء "الشاباك" المطلوبين للشهادة "لأسباب تتعلق بأمن الدولة".
اشتُهر كاستنر بإنقاذه نحو 1700 يهودي مجري في بودابست خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال صفقة مع النازيين. وفي مسعىً يهدف غلى تبرئة كاستنر، عمل المؤرّخ بول بوغدانور سنوات، أصدر في نهايتها كتابه "جريمة كاستنر" (2016). كان كاستنر زعيم تجمع صهيوني في بودابست قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، وتعاون مع النازي أدولف أيخمان، وأقنعه بالموافقة على ترحيل 1684 يهوديًا مجريًا، مقابل أن يقنع كاستنر آلاف اليهود المجريين بالانتقال الطوعي إلى معسكر الإبادة الشهير: أوشفيتز. وبحسب الكتاب فإن رودلف كاستنر لم يكن يعلم أنهم سيُرسلون إلى حتفهم فحسب، بل تعمد إخفاء هذه المعلومات السرية عن يهود المجر والعالم. بحلول عام 1952، كان كاستنر يشغل منصبًا مرموقًا في "الوطن القومي اليهودي"!
تعاون كاستنر مع النازي أدولف أيخمان، وأقنعه بالموافقة على ترحيل 1684 يهوديًا مجريًا، مقابل أن يقنع كاستنر آلاف اليهود المجريين بالانتقال الطوعي إلى معسكر الإبادة الشهير: أوشفيتز
وفي العام التالي، نشر يهودي مجري كتابًا يتهمه بالتعاون مع النازيين، وبالضبط كما يتبجح اليوم نتنياهو وزمرته بترويج الأكاذيب، رفعت الحكومة الإسرائيلية دعوى تشهير نيابة عن كاستنر، وحكم القاضي بأنه تعاون بالفعل مع النازيين، وقال عبارة تردّدت على مر السنين، إنه: "باع روحه للشيطان". وأطلِق النار على كاستنر ليسكت إلى الأبد!
وحكومة أحفاد الصهيوني النازي المجري هم أنفسهم من يرسلون "طائرات كاستنر" لتحرق البشر والحجر في غزّة، وكما أسكتت القاتل رصاصة مجهولة، يجري قتل الشهود وقتل الحقيقة، لكن حقيقة الصهيونية أصبحت اليوم أكثر انكشافًا للملايين في مشارق الأرض ومغاربها. وعندما يردد طابور طويل من المسؤولين والكتاب الصهاينة، في مقدمتهم الرئيس الإسرائيلي نفسه إن مظاهرات التضامن مع أهل غزّة دعوة إلى إبادة اليهود، فإن السردية الأكثر إنسانية التي يمثلها "الفلسطيني" تكون قد كسرت قيود الاحتكار الصهيوني الطويل للسردية. ولعل مما يلخص هذا أوضح تلخيص غضب أحد الصهاينة من الاحتجاجات العالمية (سي. إن. إن. 7/11/ 2023) بتعبير: "إنهم لا يفهموننا"، وهو يذكّر بالسؤال الأميركي الذي أعقب "11 سبتمبر" 2001: "لماذا يكرهوننا؟"!