طالبان .. رهان وسطي
"عند علمائنا، صوت المرأة عورة، والموسيقى حرام لأنها مزمار الشيطان، والرسم عندهم كائن ما لم يكن فيه ذو روح. ولذلك هم يجيزون رسم الطبيعة وفنون الخط. أما المسرح والسينما فهما ممنوعان، نظرا إلى ما فيهما من مفاسد واختلاط الرجال بالنساء، وتدليس على الخلق، لأن ما يقدّم سواء في المسرح أو السينما لا يصوّر الحقيقة، ثم إن السينما فيها تصوير، ورأينا في التصوير كما تعرف".
هكذا أجاب نائب وزير الثقافة والإعلام في حكومة طالبان (الأولى)، مولوي رحيم الله رزمتي، عن سؤال بشأن رأيه في الفنون، وجهه إليه الكاتب الصحافي المصري، فهمي هويدي، في زيارته الأولى لأفغانستان عام 1998، أي بعد عامين من وصول طالبان إلى الحكم. صاحب الإجابة السابقة شاعر وأديب ومثقف ومفسّر ومسؤول حكومي، وهو لا يعبّر عن أفكاره الخاصة، بل عن توجه الدولة منذ شهورها الأولى. والإجابة أوردها فهمي هويدي، المعروف بتوجهاته الإسلامية، في كتابه "طالبان .. جند الله في المعركة الغلط" (دار الشروق، القاهرة، 2001).
تكشف الإجابة عن ذهنية "طالبان"، ونمط تفكيرها وتدينها، ونوعية مسؤوليها، وأفكارهم، وخطاباتهم. وحين تستعرض كتاب هويدي، المهم في زمنه وسياقه، تكتشف، مع كل صفحة، حجم التجاوزات والانتهاكات التي مارستها الحركة في نسخة حكمها الأول على الشعب الأفغاني، واستخدام عصا الدولة في إجبار الناس قسرا على نمط تديّن بعينه، تدين بالأمر، بالقانون، بالشرطة، بالتعليمات. بعد شهرين من دخول "طالبان" كابول، صدر تعميم موقع باسم مولوي عناية الله بليغ، نائب الوزير في الرئاسة العامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بقائمة من المحظورات، على الناس الالتزام بها، وعلى الهيئة مراقبتهم، ومعاقبتهم إذا تجاوزوا، منها: تجريم خروج المرأة كاشفة الوجه، الوجه فقط! وأي امرأة ترتدي "البرقة الإيراني"، التي تغطي الرأس والجسد كله، عدا الوجه، فهي مخالفة، يتعرّض زوجها للعقاب، ويتعرّض سائق التاكسي الذي يسمح لها بالركوب إلى السجن. الأمر نفسه ينطبق على شرائط الموسيقى. الموسيقى محرّمة وممنوعة، ممنوعة في الإذاعة، في المحلات، في الفنادق، في السيارات، في الأعراس، وفي أي مكانٍ يضبط فيه شريط موسيقى يغلق ويسجن صاحبه. تحريم حلق اللحى، ومن يحلق يُسجن حتى تنبت له لحية. الصلوات في المساجد إجبارية، بالقانون. وأي محل مفتوح قبل الصلاة بخمس عشرة دقيقة يُقبض على صاحبه ويسجن. الأمر نفسه يتعرّض له من يطيل شعره على الطريقة الإنجليزية والأميركية، يقبض عليه، ويحلق له شعره، ويدفع ثمن الحلاقة. 16 محرّما ومجرّما، ناهيك عن إغلاق مدارس البنات، ليس لحرمة تعليم الإناث، ولكن لأن الدولة، وقتها لم تكن قد استقرّت بعد، ما الذي ينبغي للبنت أن تتعلمه، وما الذي لا ينبغي لها، وهل لها أن تتعلّم في مدارس مثل الرجال، أم عليها أن تتعلّم في البيت، بعيدا عن الشارع، وبعيدا عن الاختلاط بالرجال، سواء كانوا طلابا، أو أساتذة، فحتى تدريس الرجل للطالبات محرّم، وهو يعرّضهن إلى تكرار ما حدث بين كلينتون ومونيكا لوينسكي، بشكل أو بآخر، كما صرّح مولوي سعيد شهيد نائب وزير التعليم، في حواره مع هويدي.
لا تكفي مساحة المقال لاستعراض كل ما جاء في الكتاب، من معالم التجربة الأولى، في العهد الذي سمي، من دون أدنى تعسّف، بالوحشي، لكن: هل تغيرت حركة طالبان؟ هل "طالبان" الآن غيرها منذ 20 عاما؟ هل ثمّة مراجعات لهذه الجرائم غير الدينية التي ارتكبت باسم الدين، وباستخدام الدولة؟ هل أعلنت "طالبان" تراجعها عن انتهاكات التجربة الأولى؟ هل اعترفت بأخطائها؟ هل نظّرت لذلك؟ الإجابة الواضحة: لا. ما تغير حقا، هو ما كان يمثله فهمي هويدي وقتها، أبناء أطروحة الإسلام الوسطي الذين رفضوا "طالبان"، في تجربتها الأولى، ورفضوا تشبيههم بها، وهم اليوم، (ولا أقصد فهمي هويدي وجيله طبعا)، في غالبيتهم، معها، يدعمون، ويبرّرون، ويكشفون عن محطّة جديدة، ومرعبة، آلت إليها هذه التجربة التي كانت يوما ما مختلفة ومبشّرة، وهو ما يستحق نقاشا واسعا.