طقوس عاشوراء بعيون غربية
للتاريخ سطوة غير منظورة، نلجأ إليه كلما أعيتنا الحيل في قراءة ما يدور من حولنا، وفي تشخيص ما يعتورنا من مطبّات وأخطاء. نلوذ به، نستقرئه، نتعلّم منه الدروس، ونستقي منه العبر، وقد نجسّد بعض أحداثه في طقوسٍ بهدف أن نخلق منها حياة جديدة تمنحنا الرضا عن أنفسنا، والرغبة في أن نكون كما كان عليه آباؤنا. لكن يحدُث أن تتملّكنا تلك الطقوس إلى درجة أننا نمارسها من دون أن نتفحص جدواها، وحتى أننا قد لا نجد تبريراً نقنع به أنفسنا في ممارستنا لها.
هذا ما نجده ماثلاً أمامنا في طقوس عاشوراء التي لم تعد احتفاء مهيباً يليق بواقعة استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب المأساوية المفعمة بالدم، بأيدي خصومه الذين واجهوه وهو على مشارف مدينة كربلاء إثر قدومه إليها من مكّة بنية مبايعته خليفة للمسلمين، وإنما تحوّلت إلى ممارسات تثير الاستهجان، مثل اللطم على الصدور، أو ضرب الرأس بآلة (الطبر) الحادّة التي تشبه الفأس، أو جلد الظهر بسلسلة حديدية، وايهام النفس بأن هذه الممارسات واجبٌ ديني، أو على الأقل اعتبارها تعبيراً عن حالة حزن وألم. ولا يقرّ عديدون من مراجع الشيعة هذه الممارسات، بل يعتبرونها خروجاً على العقيدة، لكنهم لا يحثون أتباعهم على التخلي عنها، لأنّ ذلك قد يجعلهم يخسرون ولاءهم، كما يخسرون المنافع والامتيازات التي يحصلون عليها.
يذكر توماس لييل، الضابط البريطاني الذي عمل في الإدارة المدنية التي أقامها الإنكليز في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، أنه سأل المرجع الأعلى للشيعة في حينه، كاظم اليزدي، في جلسة خاصة جمعت بينهما عن السر في عدم توجيه المراجع أتباعهم بعدم اتباع هذه السلوكيات. أجابه المرجع بأنه يفقد السيطرة على هؤلاء الناس في مثل هذه الأمور، ولا يستطيع كبح جماحهم، مؤكّداً أنّ "الإمساك بموجات البحر أسهل من التأثير على عقول هؤلاء السذّج الذين يمتلكون قناعة ذاتية في أنّ تلك السلوكيات البدائية تمثل طاعة لله، ويصبح الكفّ عنها عصياناً له" وهذا، في ما يبدو، ما تريده "المراجع" منهم.
رجال الطبقة السياسية اليوم وجدوا في طقوس عاشوراء ما يحقّق سيطرتهم على عقول تابعيهم من الأميين والسذّج
ويقول لييل الذي قدّر له أن يشهد تلك الطقوس إنّ كثيرين يعتقدون أنّ ممارسي تلك الطقوس إنما يبتغون الحصول على المغفرة عن الخطايا التي ارتكبوها في حياتهم، وهذا يفسّر الرغبة لدى أفراد سيئين كثيرين ليأخذوا حصتهم في عملية التعذيب الجسدي وجلد الذات تكفيراً عن خطاياهم. ومن الناحية السيكولوجية، تتصاعد مشاعر أولئك الناس حدّة إلى أعلى درجة يمكنهم بلوغها، وقد يصبحون أكثر اهتياجاً مع بلوغ هذه الطقوس قمتها في اليوم العاشر، ويظهرون حماساً وحشياً ومتعة في التسابق على ممارستها والانغماس فيها. ولاحظ لييل أنّ العاملين في دوائر الحكومة أنفسهم يسعون إلى الحصول على إجازة من العمل لتتسنى لهم المشاركة في تلك الطقوس التي تبدو للرائي أنّها تمثل القناعة لدى المشارك في أنّها ستمحو ذنوبه، وأنّه سوف ينال المغفرة عنها.
يضيف لييل الذي كرّس فصلاً خاصاً في مذكّراته "دخائل العراق .. عين بريطانية على خفايا عراقية" (دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، 2018) لهذه الطقوس أنّ الغربيين قد يتصوّرون أنّ تلك ليست سوى مشاهد مسرحية مفتعلة، لا تسبب ألماً حقيقياً، لكنهم يجهلون أو يتجاهلون أنّ عملية "التعذيب الذاتي" هذه يفعلها الفرد المشارك ليس أقل من 20 مرّة في كلّ ليلة، ولعشر ليالٍ متتابعة، وهو يضرب على صدره ليس أقلّ من مائة مرّة، ولنا أن نتصور أنه في كل مرّة تسقط يده على البقعة نفسها من جسده.
وقد توصل لييل الذي كان يراقب المشاهد الماثلة أمامه بتمعّن إلى أن ما شاهده لا يعكس تطرّفاً مصطنعاً. على العكس، كانت تلك المشاهد تتّسم بقدر كبير من العفوية والتلقائية المعبّرة عن إيمان وحماس، لو قدّر لهما أن يوجّها نحو القنوات الصحية والإيجابية لغيّرا مجرى الحياة في بلدانهم. ويظهر على هؤلاء الناس أنّهم توّاقون للتعبير عن مكنونات أنفسهم من خلال سلوكيات تبدو للمراقب الخارجي خارجة عن المألوف، وبعضها يجلب السخرية.
ما اكتشفناه نحن بعد عقود من كتابة لييل أنّ رجال الطبقة السياسية اليوم وجدوا في طقوس عاشوراء ما يحقّق سيطرتهم على عقول تابعيهم من الأميين والسذّج الذين تكون ممارسة التعذيب والجلد الذاتي عندهم أشبه بمخدّر يصرف أذهانهم عن المطالبة بحقوقهم، وقد يعزّز اعتقادهم بأنّ الذلّ الذي يقيمون فيه قدرٌ محتومٌ لا يمكن لهم ردّه، وهذا ما يريده الحاكمون، ويعملون على تجذيره.