طوفان الأقصى ليس "الركبة الجريحة"
يحتاج منتج الخطاب أمام مهابة الاستشهاد إلى التواضع والتأمّل، حيث الكلمة تبقى وصفًا "باردًا" لجحيمٍ ترتسم حدودُه وملامحه بخليطٍ من البطولات والمآسي، ويحتاج متلقّي الخطاب إلى قلبٍ متفائلٍ وعقلٍ بصيرٍ ويقينٍ شُجاع. وخلال ما يزيد عن قرن من تاريخ الصراع على فلسطين كانت الأبعاد الدينية والتاريخية مدخلاتٍ رئيسة، تلاعب بها بعضهم تحريفًا وتأويلًا، واحتمى بها آخرون في مواجهة أعاصير الكذب وألسنة لهيب الحروب المؤتمتة. وفي قلب النار التي لم تكد تنطفئ منذ وعد بلفور حتى "طوفان الأقصى"، كانت قواعد "الفصل" و"الوصل" أحد أهم الفخاخ التي نُصِبت للعقل العربي.
وفي مقدمة هذه الفخاخ أحكامٌ أطلقت تصف أفكارًا أو وقائع بأنها تشبه (أو لا تشبه) سوابق تاريخية محدّدة، وهي أحكامٌ انطوت في حالات كثيرة على تجاوز حقائق، ربما بدهية، وسنن لا تتخلّف عبر التاريخ. وعلى المستوى الأخلاقي، انفتح على الشعوب العربية بابٌ دخلت منه رياحٌ مسمومةٌ صنّفت في حزمة واحدة ظواهر منفصلة تمامًا ومختلفة إلى حد التباين، وأقيمت حواجز فصلٍ مُتوهَّمة بين حقائق وقيم لا يبرّر الفصل بينها إلى مُصابٍ بعمى البصيرة أو موت الضمير، أو كليهما معًا!
والفلسطينيون ليسوا الهنود الحمر ولن يكونوا، ومعركة طوفان الأقصى المجيدة ليست "غزوة مانهاتن" (هجمات 11 سبتمبر الإرهابية)، وهي، يقينًا، ليست مجزرة "الركبة الجريحة". والمأساة المروّعة التي وقعت في العقد الأخير من القرن التاسع عشر كانت آخر معارك الهنود الحمر، ووقعت بعد أربعة قرون من التوغّل الغربي في القارّة البكر، حيث خارت المقاومة وانتهت تمامًا عام 1890، ليسيطر الغُزاة الغربيون على البلاد نهائيًا. وفي المعركة، قتلت قوةٌ ساحقةٌ من المستوطنين الغربيين أكثر من مائتي رجل وامرأة وأطفالاً من الهنود بعد سلسلةٍ طويلةٍ من المعاهدات التي أبرمها الغُزاة الغربيون ثم نقضوها بدم بارد.
قدرة إسرائيل على تحمّل الخسائر البشرية لم تُختبر بشكل حقيقي في كل جولات الحروب التقليدية منذ نشأتها حتى اليوم
ولم تكن ثقافة الهنود الحمر بـ "سكونيّتها" ومحدودية أفقها قادرةً على مواجهة رؤية كوزموبوليتانية (كونية) تستند إلى استعارةٍ مجازيةٍ كبرى، استُدعيت من "الكتاب المقدّس" لتمنح الغزاة قوة دفع جبّارة (ولم تكن التقنية وحدها لتحسم المعركة) فالوعد الغيبي والتشابه المتَوهَّم بين المستوطنين الغزاة ودخول بني إسرائيل أرض كنعان قبل عدة آلافٍ من السنين كانا قوة دفع حاسمة. واليوم يتحدّث يوآف غالانت وبنيامين نتنياهو ووزراء حكومة إسرائيل عن معركة تغيير الشرق الأوسط، بالضبط كما طوت معركة "الركبة الجريحة" صفحةً من التاريخ وفتحت أخرى. ولأن التاريخ لا يسير في مسار خطّي، ولأن منطق "الفصل" و"الوصل" أكثر تعقيدًا من المنطق التبسيطي الصهيوني الذي قام بعملٍ تبشيريٍّ كبير رسالته الرئيسة أن إنشاء إسرئيل لتكون وطنًا قوميًا لليهود سيمنحهم مكانًا "يأمنون" فيه بعد قرون من النفي والطرد والإبادة والشتات الطوعي والقسري، لكن ما حدث بالفعل أن اليهود كانوا أكثر أمنًا في كل مكان في العالم، تقريبا، باستثناء إسرائيل!
والعوامل الغائبة في تقييم التشابه والاختلاف في المسارات والمصائر تعبيرٌ عن إغفال حقائق أساسية لا يجوز إغفالها، وفي مقدّمتها أن سقف توقع المستوطن الصهيوني، منذ إجهاض "ثورات الربيع العربي"، كان أن إسرائيل لم تكن أكثر أمنًا مما هي اليوم، وأن الثمرة توشك أن تسقُط في حِجر حكومة يمينيةٍ مستأسدةٍ ومخمورةٍ بانفتاح أبواب عواصم عربية بعد عقود من العزلة الخانقة. ومع التمدّد السهل، جاءت مفاجأة "طوفان الأقصى" لتجعل مسار التاريخ يبدو "معكوسًا". ومن الحقائق الـمُغفَلة أيضًا أن قدرة إسرائيل على تحمّل الخسائر البشرية لم تُختبر بشكل حقيقي في كل جولات الحروب التقليدية منذ نشأتها، وأن البُعد الديني في صراع اليوم يجعل الامتداد الديموغرافي للفريقيْن يضع إسرائيل في موقفٍ عصيب، وهو مأزقٌ لا تملك التقنيّة أن توفّر له حلًا. ومن الحقائق الـمُغفَلة أيضًا أن التخلّص من فلسطينيي الضفة الغربية وفلسطينيي الخط الأخضر يحتاج، بناء على هذا المنطق البائس، إلى معركة، بل ربما معارك. والإصرار الإسرائيلي/ الغربي على استمرار سفك دماء "الهنود الحمر" الـمُتوهَّمين، المجلوبين من التاريخ الأميركي بضلالاتس تلفيقية، ليس سوى "حيلة نفسية".
أما الفضاء الساكن الـمستعدّ للإذعان في أحلام نتنياهو وغالانت وحلفائهما فهو مُتَخيَّل لا وجود له إلا في عقل نخبةٍ إسرائيلية مرعوبة، بينما تحاول أن تبدو "مُرعِبة"!