عالم بلا سيسي
انفرد بنفسك قليلاً، واسألها: كيف كان العالم قبل ظهور عبد الفتاح السيسي، على المسرح محمولاً في صندوق فاخر، مكتوب عليه "صنع في إسرائيل بتكنولوجيا أميركية وبتمويل سعودي إماراتي"؟
احسبها على كل المستويات، أمنياً واقتصادياً وإنسانياً، دعك من السياسة الآن. هل كان"داعش" بهذا الحجم المخيف؟ هل كان الشارع بهذا الرعب والتوحش؟ هل كان الإنسان بهذه البلادة في الإحساس، التي تجعله يصفق للظلم وللقمع وللإهانة، ويتعاطى بنذالةٍ وخسّةٍ مع الحق والعدل والكرامة، خوفاً من عقاب، أو طمعاً في مكافأة من الظالم، كما ترى حولك وتسمع هذه الأيام؟
احسبها في مصر، وفي الدول العربية، واضعاً أمامك مؤشر الحالة الإنسانية، في البداية، ستكتشف عديداً من علامات الانهيار الشامل في منظومة العلاقات بين المواطن وجاره، أو زميله، أو حتى أخيه، وبين المواطن والوطن نفسه، ستجد أن الشعب العربي دخل في أتون حالة اغترابٍ مرعبة، بالمفهوم الوجودي، سواء كان في وطنه، أو راحلاً عنه إجبارياً.
أنظر، مثلاً، تحولت مطارات العرب والعالم من أماكن للبهجة والدهشة إلى أكمنة خطر، لا يعلم القادم إليها إن كان سيمرّ مرور الكرام، أم سيجد من يعتبره صيداً ثميناً، للاستثمار في سوق الحرب على الإرهاب.
ثم انظر حولك مرة أخرى، ها هي "البسوس" و"داحس والغبراء" اشتعلت مجدّداً، بامتداد خارطة الوطن العربي، وتطورت المسألة من خلافاتٍ بين الأنظمة إلى ما ينذر بتحولها إلى اشتباك شعوبي ممجوج، في ظل التحريض المتواصل على مدار الأربع وعشرين ساعة، من منابر إعلامية، عربية، تعتبر أن ما بينها وبين أفيخاي أدرعي، من ارتباطاتٍ، أقدسُ مما بينها وبين الشقيق العربي من روابط دم ودين ولغة وثقافة.
وهذا كله منبته ما جرى ويجري على مستوى الداخل المصري، حيث كل ما يصدر عن عبد الفتاح السيسي ونظامه من أقوال أو أفعال أو قراراتٍ وتشريعات، يبدو مثل براميل من المازوت تُلقى، بوعيٍ، لإضرام حرائق الفتنة الطائفية، بين مسلمين ومسيحيين، وتأجيج الجحيم المجتمعي الذي افتتحه السيسي في 2013 بمحرقتي رابعة العدوية والنهضة، وما جاء بعدهما من حرائق نفخ فيها فاسدون وأشرار من النخبة السياسية والثقافية.
هذه المأساة من التغييب الكامل لاعتبارات الروابط الأسرية، والإنسانية، التي جعلت الأخ يبلغ عن أخيه، والجار يرقص في هيستيريا، بينما جنازة جاره تمر أمامه، والموظف يفترس زميله، ويشي به، تزلفاً للمدير، يراد لها أن تتسع وتتمدّد الآن، ليتم تعميم الحالة المصرية نموذجاً حاكماً للعلاقات العربية- العربية، وما نراه من جنونٍ في إدارة الخلاف الخليجي- الخليجي هذه الأيام، هو مستصغر الشّرر الذي تسعى الأطراف ذاتها التي أحرقت مصر، لتحويله إلى جحيم إقليمي مستعر.
حريٌّ بكل إنسان عربي، في هذه الأيام المباركة، أن يصوم قليلاً عن الصياح الهستيري بشعارات الوطنية الزائفة، وأوهام الريادة، في وطنٍ صار كله تابعاً منقاداً، ويحاول أن يجدّد إنسانيته، ويكون مع العدل والحق، مع الإنسان.
وقبل ذلك أدعوه، مرة أخرى، لكي يقارن بين خارطة المنطقة قبل ست سنوات، مع بزوغ فجر الربيع العربي، والكابوس الإقليمي الذي يحاصر الجميع الآن، ليرى كيف أن العالم كان أكثر إنسانيةً وسلامةً نفسية حين كان هناك احترام لحق الشعوب في الحلم بالتغيير.. أما وقد تكأكأت الضباع والسباع على مروج الربيع، فقد نشب الحريق.. جاء السيسي فانتعش "داعش"، فاستأسد الحوثي فاستقر الأسد. وهكذا مضت متوالية الانقلاب على أجمل من أنجزه العرب في العام 2011، فصار العالم أقلّ تحضرا وأوهن أمنا.
الذين يستثمرون في الخراب الأممي الشامل، وينفقون، بسخاء، على المقتلة الدائرة في مصر، ويبدّدون موارد الشعوب وطاقاتها، في الإنفاق على مشروع عبد الفتاح السيسي، يبدون وكأنهم يلبون دعوة إيهود باراك، أكثر مجرمي الحرب الصهاينة شراسةً ضد العرب، حين قال في مقابلة مع فريد زكريا، على CNN عقب انقلاب السيسي مباشرة "أعتقد أن العالم بأسره يجب أن يدعم السيسي، ربما إذا دعمناه نحن فسوف نحرجه، ولن يساعده ذلك، ولكن السيسي والقيادات الليبرالية، مثل البرادعي، يستحقون دعم العالم الحر، لقد جرى انتخاب محمد مرسي بنزاهة نسبيا، ولكنه استخدم الأدوات من أجل تحويل الانتخابات الديمقراطية إلى نظام شمولي متشدد يستند إلى الشريعة الإسلامية، وقد رفضه شعبه".
مرة أخرى، حٓكِّم ضميرك، وجدد إنسانيتك، وقارن بين شكل العالم، قبل عبد الفتاح السيسي وبعده.