عام على عودة المقاومة

10 أكتوبر 2024
+ الخط -

نواجه في هذه الأيّام، بكثير من الأحاسيس المتناقضة والأسئلة الصعبة، مرورَ عام على الحرب العدوانية التي يشنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني. نواجه صور الموت والهدم والحرق والتجويع والطرد والتهجير، نرى ما ذكرناه كلّه بأعيننا، ويراه العالم أجمع معنا، حتّى عندما يصرّ الإعلام المُغرِض على وصف جرائم الحرب المتواصلة وربطها بجغرافية غزّة وساكنتها، مُغفلاً أنّ فلسطين لا يمكن أن تكون من دون غزّة. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل يتخطاه، فحرب الإبادة لم تتوقّف، بل تتَّسع اليوم ويصعب إدراك مختلف مراميها.

عندما عادت المقاومة الفلسطينية مُفَجِّرةً "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر (2023)، كنّا نعرف أنّ عودتها تَمَّت في سياق شروط فلسطينية مُعقَّدة، وأنّها عادت في وقت يُواصل فيه الكيان الصهيوني تَجْمِيد آليات وإجراءات إتمام مشروع اتفاقية إعلان المبادئ (أوسلو 1993)، إضافة إلى أنّه لم يتوقّف عن استيطان ما تبقى من التراب الفلسطيني، ويواصل اعتداءاته على فلسطينيّي الضفّة والقطاع. عادت المقاومة لتعلن بجرأة ووضوح أنّ الشعب الفلسطيني قادر على اختراق أسلاك الصهيونية، وإنجاز المهمّات الصعبة، في الوقت الذي كان يتصوّر فيه أنّ بإمكانه أن يستأنف سياساته العدوانية، ويُعِدَّ العُدَّة الحربية لاستكمال خطوات ما يُعْرف بـ"صفقة القرن".

حطّمت المقاومة العائدة حلم الصهاينة القادم من مشروع تيودور هرتزل الرامي إلى بناء دولة لليهود في قلب المشرق العربي، وساهمت بتفجيرها "الطوفان" في وَقْفِ ما آلت إليه الأوضاع الفلسطينية والأوضاع العربية، ودفعت الجميع إلى الانتباه إلى الوضع الفلسطيني في تحوّلاته، وفي صور علاقاته بنظام الاحتلال الصهيوني وسياساته العدوانية المتواصلة. ورغم أنّ هذه العودة ارتبطت بالحرب التي شنّتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزّة، إلّا أنّ ردَّات فعلها المُدَمِّرة لم تُوقف روح المقاومة التي تستعيد اليوم شعارات التحرير والاستقلال، بعد سيادة قيم التخاذل والتراجع في أغلب الأنظمة السياسية العربية، وقد تحوّلت في السنوات الماضية أنظمةً قادرةً على نسيان مختلف صور احتضانها للمشروع الوطني الفلسطيني، مشروع تحرير ما تبقى من الأرض العربية.

غمرت مياه الطوفان الجارف أحلام الصهاينة، وحطّمت أساطيرهم بضربة واحدة

نقرأ أفعال المقاومة في سياق المواجهة المطلوبة دائماً بين الفلسطينيين ومن يحتلّ أرضهم وبيوتهم ويستوطنها، نقرأها ردَّة فعل على مآلات المسألة الفلسطينية، وعلى مختلف أشكال التحوُّل التي عرفتها في آخر أربعة عقود. فلا أحد يستطيع إنكار أنّ فعل المقاومة الجارية يُعيد قضية التحرير إلى الواجهة، إنه يذكِّرنا بالنكبة المتواصلة منذ أزيد من سبعة عقود، إذ يتواصل الضَّم والهدم والطمس. غمرت مياه الطوفان الجارف أحلام الصهاينة، وحطّمت أساطيرهم بضربة واحدة، استيقظ الغرب الإمبريالي على وضع حادث الطوفان الْمُدَبَّر بِعِنايَةِ من اغْتُصِبت أراضيهم وهُجِّروا من ديارهم، فأُعلِنت حرب إبادة وتهجير، وانطلقت جرائم الحرب الصهيونية بكثير من العنف، وكثير من الحرق والقتل. وقد مرّت الآن سنة كاملة تلقّى فيها الشعب الفلسطيني المقاوم ضربات موجعة، فوجد نفسه منخرطاً في عملية مُقَاوَمَةٍ استعاد فيها صَفاء شعارات التحرّر والاستقلال، رغم كلّ ما لَحِقَهُ من ويلات وخراب.

يقتضي سياق المقاومة الجارية التذكير بصعوبة المعركة، كما يقتضي التنويه بالانتفاضات والمقاومات التي ساهمت في بناء معارك التحرير الفلسطينية. فقد واجَه الآباء كائناً استعمارياً من طراز خاصّ، منحته أوروبا وهي تغزو العالم وتُرَكِّب خرائطه في نهاية القرن التاسع عشر، معالم مُحَدَّدة. ولم يشكل حدث النكبة سنة 1948، وإعلان دولة إسرائيل، إلّا الوجه الْمُعْلَن والمكشوف، أمّا تهجير وطرد وتشريد الفلسطينيين، فطُمِس، رغم أنّه استُعمل قاعدةً مُؤَسِّسَةً لدولة مسروقة من أهلها. منذ ذلك الوقت، لم تتوقّف المعارك، ولم تتوقَّف الحروب والهزائم والانتصارات، تَمَّ السطو على بعض الأرض بالحديد والنار والمال، والخيانات والمَكْر. استُعمِلت الوسائل كلّها، من التَّطهير العِرْقِي إلى إخلاء القرى والمدن، تَمّ تغيير أسماء الأماكن وتزوير التاريخ بالأساطير التوراتية، وتَمّ لاحقاً إعلان يهودية الدولة، فأصبحنا أمام استعمار جديد يختلف عن صور الاستعمار الغربي، كما حصل في نهاية القرن التاسع عشر، إحلال شعبٍ ودولةٍ مكان شعب وثقافة وتاريخ، ولا علاقة للمحرقة التي مارستها النازية على اليهود بالحرائق وجرائم الحرب التي يواصلها اليوم الكيان الصهيوني في فلسطين، مُستهدِفاً محو شعب كامل.

تتواصل روح المقاومة الفلسطينية لتؤكّد أنّه لا يمكن إبادة الفلسطينيين ولا تهجيرهم، فهم في فلسطين باقون

تتواصل روح المقاومة الفلسطينية زمن الحرب، لتؤكّد أنّه لا يمكن إبادة الفلسطينيين ولا يمكن تهجيرهم لا من ديارهم ولا من أرضهم، فهم في فلسطين باقون رغم الويلات التي يتعرّضون لها. تطايرت شرارات المقاومة العائدة من قلب ما تبقّى من الرماد، لتعلن للعالم بصوت مرتفع أنّ أساطير الصهاينة المُرَتَّبَة مفرداتها وفصولها من طرف القِوى الغربية في سياق حسابات دولية ذات صلة بأزمنة خلت، لم تعد مجديةً. المقاومة الجديدة اليوم خيار سياسي تؤطّره تحوّلات كبرى يجري تأسيسها، ومُخْطِئٌ من يعتقد أنّ تدمير غزّة وقتل أطفالها، وجرائم الحرب كلّها، التي تمارسها إسرائيل ومن معها بعتادهم الحربي، ستطفئ جذوة شرارات التاريخ الجديد، الذي صنعه طوفان الأقصى.

لسنا هنا بصدد بلورة محصّلة لجرائم الحرب التي يقوم بها الكيان الصهيوني، إن ما يهمّنا في غمرة الحرب المتواصلة تأكيد أنّنا لا نقيم أيَّ تمييز بين ساكنة غزّة وساكنة فلسطين. كما لا نميّز بين ساكنة غزّة وساكنة المدن والقرى الأخرى وأشكال مقاومتها، وقد شملت في العقود السبعة المنصرمة مختلف المدن الفلسطينية. إنّ ما يهمّنا هنا، ونحن نُكْمِل سنةً من المقاومة، هو كيف يواصل الشباب الفلسطيني المقاوم كسر أوهام الصهاينة؟ وإذا كنا نعرف صعوبة الشروط والسياقات السياسية والتاريخية، المؤطِّرة اليوم لحرب التحرير الجارية، فإنّنا نعرف أيضاً أنّ الشباب الرافع اليوم راية المقاومة والصمود، هو وحده القادر على وقف العدوان الصهيوني المتواصل، بفضل وحدة الصَّف المُقْتَرِنَة بوحدة المشروع الوطني الفلسطيني، ووحدة الفصائل المُكوِّنة للجسم الفلسطيني، من أجل صمود أقوى ومقاومة تفتح أعينها مُجدَّداً على سياق تاريخي مختلف عن كثير من التحوّلات التي لحقت بالمشروع الوطني الفلسطيني في آخر ثلاثة عقود.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".