عام قيس سعيد
تعوّذ الرئيس التونسي، قيس سعيد، قبل شهور، بالله من الشياطين، ومن أن يسكت عن حقٍّ يعلم هو أنه حق. والمرجّح أن خيبة الأمل بين فئاتٍ واسعةٍ من التونسيين، سيما النخب والمتعلمين والشباب، من أداء فخامته، وقد اكتمل عام، قبل أيام، على رئاسته الجمهورية، تعود إلى "ما يعلم أنه حق"، وإلى أنه لا يُشغل نفسه بما لا يعلم أنه حق. وأول حقٍّ يحسُن أن يقال، في هذه المناسبة، إن قيس سعيد، عندما ترشّح أطلق عدة وعودٍ، من الكياسة أن يتسامح واحدُنا مع خروج بعضها عن صلاحيات الرئيس، طالما أن الدعائية ومقادير من التدليس تحضر في الحملات الانتخابية، غير أن الرجل مرجعٌ في مشتملات الدستور، بل كان حضوره العام، قبل الثورة وبعيْدها، يقتصر على استضافاتٍ في التلفزة لتفسير هذا البند أو ذاك من الدستور. كان بلا نشاط حقوقي أو ميداني أو سياسي، وبلا أي فاعلية بشأن حريات التونسيين وعيشهم وأرزاقهم. ولا يُشار إلى هذا الأمر هنا لمعايرته، فهو صار رئيساً للدولة في استحقاقٍ انتخابيٍّ وإرادةٍ شعبية، وإنما للعبور من هذه المسألة إلى حاله لمّا صار رئيساً، لمّا صار جهدُه الأهم الإقامة في الشكليات الدستورية، والاعتصام بها، ليصنع منها سلاحاً بين يديه، في مكايداتٍ ومناوشاتٍ وخلافاتٍ بدا أنه يستطيبها، مع رئاستي الحكومة والبرلمان، فضلاً عن ازدرائه الأحزاب التي يتوطّن في أفهامه عدم حاجة التونسيين لها.
مما تبيّن، في العام الذي انقضى، أن قيس سعيد بارعٌ في استثمار المساحات الضيقة التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية، وفي عمله على توسيعها، بفعل الركاكة الظاهرة في الصراعات البائسة في أوساط النخب الحزبية والنيابية في البلاد. نجح، أيّما نجاح، في الإفادة من هذا الحال، ومن صلاحيته التي تتيح له حلّ البرلمان في غير حالة. وإلى احترافه هذا العمل، بدا قادراً على استضعاف رئاسة الحكومة، عندما يدسّ من يشاء وزراء، فضلاً عن عدم احترامه التمثيلية الشعبية للكتل النيابية، وكذا القيمة الاعتبارية لأحزابٍ لها قواعدها وناسها، عندما يأخذ بالمنحى الشكلي، في طلبه ترشيح أسماء ليختار منها رئيساً للحكومة، بعد تعذّر الخريطة النيابية عن ترشيح اسمٍ يضمن الثقة، وعندما تصل إليه أكثر من عشرة أسماء، يختار واحداً من خارجها اسمه هشام المشيشي، ثم يحاول خصم مساحاتٍ منه، بل وتبثّ الرئاسة في التلفزيون مقطع "تقريع" الرئيس له. أما أن ينكشف أن شبهة فسادٍ تضرب إلياس الفخفاخ، وكانت سبباً في إزاحته من موقعه رئيساً للحكومة، فلا يجد قيس سعيد في هذا حرجاً، وهو الذي دفع بالرجل بقوة ليكون رئيساً للحكومة، رغبةً في استفزاز حركة النهضة وغيرها.
وإلى ما سبق، وغيره من تفاصيل كثيرة، ثمّة التنمّر الذي ظهرت عليه قوى وشخصيات وأحزاب من نواتج النظام المخلوع، واستعادت لنفسها نفوذاً في المجال العام، وصارت تنشط في إشاعة خطاب حنينٍ إلى عهد الاستقرار وقوة الدولة، إبّان بن علي، وضد زمن "الإسلام السياسي" و"الإرهاب" و"سطوة" حركة النهضة في البرلمان. وفي هذه الغضون، صار المشهد السياسي في البلاد موضع سخط التونسيين، وتآكلت مهابة مؤسسات الدولة التي ظلّت تنهش فيها خلافاتٌ بعيدةٌ عن تنافس البرامج والاقتراحات الوطنية، وعن البحث عن المشروع الاجتماعي الجامع الذي يتطلّع إليه الشعب الذي تزداد أحوالٌ معيشيةٌ فيه عُسراً. وفي البال أن الرئيس قيس سعيد الذي يتكلم جيداً، وبالفصحى دائماً، عن أحوال الناس، بل وعن تمثّله عمر بن الخطاب في مسؤوليته عنهم، لم يبادر إلى طرح تصوّر عام، أو مقترحٍ اجتماعيٍّ وطني يُسعف البلاد والعباد، هو الذي أشار، في خطاب تنصيبه قبل سنة، إلى أن الظلم في تونس صار سبب انتحار الأطفال. ووعد بدعم التنمية والتشغيل في المناطق الداخلية، من دون أن يحاول إنجاز توافقٍ عام على مشروعٍ شاملٍ في هذا الخصوص، وفي غيره من شؤونٍ ملحّةٍ في تونس.. آثر بدلا من هذا كله، وكثيرٍ ملحٍّ غيره، شراء الخبز بنفسه، والدفاع عن عقوبة الإعدام، والجلوس في مقهى عام، والحديث عن بغلةٍ تعثرت في العراق، مع عدم الحماس لتشكيل المحكمة الدستورية التي من شأنها أن تنزع عن شخصه صفته المرجعية (المدّعاة).
كان مؤمّلاً أن يكون قيس سعيد على غير ما عرفناه. أن يترفّع عن المنازعات الصغيرة، وأن يكون رجل التوافق الوطني، ووجه الدبلوماسية التونسية النشطة، في غير شأن عربي ودولي.. ولكن ليس لمن يبدأ العمل في السياسة بعد سن الخمسين أن يفلح، على ما قال محمد حسنين هيكل مرة.