عبدالله النيباري .. مؤسّسة في رجل
شهدت الكويت، يوم 6 يونيو/ حزيران 1997، محاولة اغتيال استهدفت شخصية برلمانية بارزة في أثناء عودته من منطقة الشاليهات، برفقة زوجته، إلى منزله، فقد استقلّ الجناة ثلاث سيارات، وانتظروا الرجل في طريق عودته من الشاليه، ودفعوا سيارته إلى خارج الطريق، بينما تولّى أحد الجناة إطلاق النار من رشاشٍ كاتم للصوت، فأصيب برصاصتين، واحدة في فكّه وأخرى في كتفه اليسرى، وأصيبت زوجته بجرح في ظهرها. الرجل المستهدف كان النائب عبدالله النيباري، برفقة شريكة عمره السيدة فريال فريج. وقد أُلقي القبض على المتهمين، وهم أربعة، حُكم على ثلاثة منهم بالسجن المؤبد، فيما حكم على الرابع بالسجن عشر سنوات. بعد 17 عاما على الجريمة، وتلبية لنداء الصلح والصفح الذي وجهه أمير الكويت آنذاك، صباح الأحمد الصباح، تنازل النيباري عن حقه الشخصي، قائلا إنه "قبل بنصيحة الصلح لرفع قيمة التسامح والتراحم بين أفراد البيت الكويتي الواحد"، ما أتاح العفو عن المتهم الرئيسي، سلمان الشملان الرومي.
لم يكن للنيباري الذي غادرنا قبل أيام، وكما يقول عارفوه، عداواتٌ شخصيةٌ مع أحد، بمن في ذلك مع المتهم الرومي الذي لم يكن على معرفةٍ به. وخلال عمله في الحقل البرلماني نحو 35 عاما، لم يعرف عنه التعرّض لأشخاصٍ أيا كانوا تحت القبة، أو في أثناء حملاته الانتخابية، إذ تركز جل اهتمامه على القضايا العامة: تعزيز سيادة الدولة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز النهج الديمقراطي. ولهذا، لم يكن غريبا أن يثير رحيلُه شعورا بالصدمة لدى سائر الأوساط السياسية والاجتماعية في الكويت، إذ ارتبطت سيرة هذا الرجل بمسيرة وطنه ومجتمعه منذ استقلال البلاد في العام 1961، بما جعله أحد أبرز رجالات الرعيل الأول من بناة النهضة الوطنية، فقد التحق بالخدمة العامة عقب تخرّجه من كلية الاقتصاد من الجامعة الأميركية في القاهرة عام 1961، ونيله بعدئذ دبلوم الاقتصاد من جامعة أكسفورد البريطانية عام 1963، وقد تقلد منصب رئيس إدارة البحوث والرقابة في مجلس النقد، وهذا المجلس كان نواة بنك الكويت المركزي، بين 1964 و1966. ليلتحق بعدئذ بمجلس إدارة شركة البترول الوطنية بين 1966 و1968 ويتسلم مديرية إدارة التخطيط والاستكشاف في الشركة بين 1968 و1971، ليغادر بعد ذلك العمل في القطاع العام نحو العمل البرلماني وبغير توقف، على الرغم من أنه واجه الخسارة في جولات انتخابية عديدة، إلا أنه تمكّن من الفوز بجولاتٍ أكثر، فاستحقّ لقب البرلماني المخضرم.
عقب غزو النظام العراقي الكويت في أغسطس 1990، اختار النيباري البقاء في وطنه، رغم المخاطر المحدقة به، باعتباره شخصية عامة ومعروفة
بيد أن الأكثر أهمية في مسيرة عبدالله النيباري أن اسمه ارتبط بأمورٍ على جانب من الأهمية: الأول سيطرة الدولة على ثروة النفط بتأميم إنتاجه في العام 1975، وقد خاض النيباري، منذ 1971، معركة سيطرة الدولة على ثروتها الوطنية، مستفيدا من الخبرة التي راكمها بالعمل في شركة البترول الوطنية، ومن تخصصه الأكاديمي في الاقتصاد. وكان يرى، في تلك الأثناء، أن فترة عشرة أعوام بعد الاستقلال كافية، إن لم تكن طويلة، حتى تُمسك الدولة بزمام مقاليد ثروتها الوطنية، وقد ظلّ يقارع زهاء أربعة أعوام، مفندا عروض الشركات الأجنبية لإدامة سيطرتها على القطاع النفطي الحيوي، وداعما للتوجه إلى السيطرة التامة على هذه الثروة. وقد سعى، بغير كلل أو ملل، مع النواب، علي الغانم وسالم المرزوق وعبد اللطيف الكاظمي وبدر المضف وناصر الساير وأحمد الخطيب وسامي المنيس وأحمد النفيسي ويوسف المخلد وفلاح الحجرف وعبد العزيز المساعيد وفالح الصويلح ومحمد الرشيد وعبد الكريم الجحيدلي، إلى تأميم النفط الكويتي بصورة كاملة، وخاض معركةً طويلةً وشاقةً امتدت حتى عام 1975، وتوّجت بوضع حد لسيطرة الشركات الغربية على القطاع النفطي التي امتدّت أربعة عقود بعد اكتشاف النفط واستخراجه وتسويقه تجاريا في العام 1934. وعليه، لم يكن غريبا أن يوصف عبدالله النيباري بأنه بطل تأميم النفط، وهو وصفٌ لم ينسبه هو لنفسه، إذ كان يردّ الفضل في التأميم إلى برلمان العام 1971.
الأمر الثاني الذي طبع مسيرة الرجل تفانيه في الحرص على المال العام، والدفاع عنه في وجه أية محاولات، ومن أي مصدر، للمساس به، حتى أنه (النيباري) كان وراء تأسيس جمعية متخصّصة بحماية المال العام، ولطالما وجّه استجوابات لوزراء معنيين في هذه المسألة، وخصوصا لدى توليه رئاسة اللجنة الاقتصادية والمالية في مجلس الأمة (البرلمان) لثلاث دورات، ورئاسته لجنة حماية الأموال العامة في دورة لاحقة، ومن غير الانزلاق إلى توجيه اتهاماتٍ بغير سند، أو السعي للنيْل من أشخاص، على الرغم من أنه تعرّض شخصيا لحملاتٍ قاسيةٍ نالت من شخصه، وبالذات في قضية شركة ناقلات النفط. وواقع الحال أن محاولة الاغتيال التي نجا منها مع زوجته بأعجوبة قد حدثت على خلفية إثارته قضية عُرفت باسم تجاوزات لوزارة الدفاع في عقود غذاء للجيش. وبهذا، ارتبط اسم النيباري وأداؤه بالجهد المثابر والدؤوب لحماية المال العام، وهو ما أكسبه احتراما واسعا، حتى في صفوف المنافسين السياسيين والبرلمانيين.
كان النيباري مؤسّسة متعدّدة النشاطات والتخصصات، جمع باقتدار بين الأعمال، البرلماني والسياسي والاقتصادي والإعلامي
محطة أخرى ذات أهمية بالغة في مسيرة الرجل. عقب غزو النظام العراقي الكويت في الثاني من أغسطس/ آب 1990، اختار النيباري البقاء في وطنه، رغم المخاطر المحدقة به، باعتباره شخصية عامة ومعروفة، وقد خضع بالفعل إلى عمليات استجواب وتحقيق وتوقيف من قوى الأمر الواقع، ولم يثنه ذلك عن جهود التنسيق بين الأطراف والتيارات الوطنية في تلك الفترة العصيبة، وهو ما انتهى، بعد تحرير الكويت، إلى قيام "المنبر الديمقراطي"، مُشكّلاً، في الأساس، من تلك القوى التي نسقت فيما بينها عملية الصمود السياسي والشعبي أمام الاجتياح، كما يكشف عن ذلك بيان صدر أخيرا عن "الحركة التقدمية الكويتية" في نعي النيباري الذي رأت فيه قدوةً في زمنٍ عزّ فيه الرموز القدوة. ذلك أن الرجل، مع احترافه العمل النيابي وتخصصه في الاقتصاد وما يتصل به من تحدّيات وقضايا، لم تنقطع صلته بالحياة السياسية، إذ يعدّ من الجيل الأول، إلى جانب أحمد الخطيب وسامي المنيس وأحمد النفيسي، ممن أنشأوا الفرع الكويتي لحركة القوميين العرب (علماً ان الأحزاب كانت وما زالت محظورة في الكويت)، إذ كان النشاط السياسي يجري في اطار نوادٍ ثقافية واجتماعية، من أبرزها نادي الاستقلال، وكذلك في سياق نشاط إعلامي، فقد واكب الراحل تأسيس مجلة الطليعة، وترأس تحريرها بعد غياب مؤسّسها سامي المنيس في العام 2000 وقبل احتجابها في 2010، وكانت معروفة، منذ صدورها في 1962، بأنها صوت فرع الكويت لحركة القوميين العرب (أطلقت المجلة اسم ناجي العلي أول مرة، ونشرت أولى رسومه في الكويت في 1964). وبعدئذ، وفي أواخر الستينيات، غدت المجلة ناطقة باسم "تيار التقدميين الديمقراطيين"، في ضوء توزّع حركة القوميين العرب على منظمات وأحزاب لبنانية ويمنية وفلسطينية وسواها وحل الكيان القومي للحركة. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، بات هذا التيار يكتسب صفة ليبرالية، وينهمك في العمل من أجل تطوير دولة الكويت، مع تميّز روّاده بالنأي في مواقفهم وخطابهم عن النزعتين، الخطابية والعاطفية، وعلى قاعدة الأخذ بالنهج الدستوري وتحقيق العدالة الاجتماعية مع مناصرة قضايا التحرّر في العالم.
بهذا، كان الراحل عبدالله النيباري مؤسّسة متعدّدة النشاطات والتخصصات في رجل، ورجلاً ذا شمائل إنسانية رفيعة، جمع باقتدار بين الأعمال: البرلماني والسياسي والاقتصادي والإعلامي، ومنذ السنوات الأولى لاستقلال بلاده، ولم يثنه عن ذلك سوى اعتلال وضعه الصحي في السنوات الأخيرة، وحتى رحيله الحزين يوم 21 مارس/ آذار الحالي، عشية عيد ميلاده السادس والثمانين.