عبلة كامل... الموهبة تتهيّب الأضواء
فيها من أخواتنا وأمهاتنا وزميلاتنا العزيزات في العمل، وفيها من بنات الجامعات المحترمات، واللائي كنا نعزّهن، نحن أولاد القرى، في صمت داخل سريرتنا، من دون أن نجرؤ على خدش حيائهن بأي شيء، ولو حتى بكلمة "صباح الخير"، كبنات مشايخ العربان، غرب سمالوط، اللائي وسمهن الحسن العفيف بأماراته البسيطة بلا دلال أو ميوعة أو تكبّر مصنوع.
وكأنها مثل تلك الفتاة الجامعية الوحيدة في سبعينيات القرن الماضي، وكانت لا تجلس إلا في نهاية المدرّج، وفي يدها مروحةٌ صغيرةٌ في حرارة الصيف، وتحاول، في كل مرّة، وكأنها تريد أن تخفيها خجلاً، وفي نهاية المحاضرات لا تراها أبداً مع أن الطيبة تنطّ من وجهها نطّاً، وبلا تكلّف، وبعد التخرّج تراهنّ فجأة في لجنة امتحانات، كملاحظات على حالاتهن الأولى نفسها، وحتى وإن رأيتهن بعد سنواتٍ في مطار بعدما تزوّجن وسافرن، ترى صغارهن وبناتهن في ملامحهن وبعض حركاتهن.
سبيكة مدينية محافظة نعم، ومدموغة بأخلاقيات الناس الطبيعية جدّاً بلا هوس وبلا خوف، وهل في ذلك تهمة أو عيب، وهذا غالباً ما نراه في أحوال أخواتنا القبطيّات، بعدما صرن في البنوك موظّفات أو في صيدلياتهنّ أو طبيبات أو مدرّسات للأحياء أو الرسم، وفي كامل استقامتهنّ. ولا عيب ولا تهمة ولا نقيصة أيضاً، فلماذا حينما تختار واحدةٌ من الفنّانات فجأة بإرادتها عزلتها، أو حتى طلباً للهدوء والراحة، يحارون فيها وكأنها ارتكبت جريمةً في حقّ الفن وجبال الألمب، ويأمرنها بأن تحاول الخروج من عزلتها، ومن أدراك أن هذه العزلة أو الهدوء أو الراحة تحمي بها ذاتها وموهبتها من التآكل اليومي والجري وراء الأضواء، وطلب العمل ليل نهار والوجود المملّ على الشاشات وبأي شكل، وهل الموهبة يجب أن تكون معروضةً كل ليلة في السهرات والبرامج واللقاءات والحفلات وسرادقات العزاء هكذا؟
الموهبة بمثابة تآلف داخلي، يظهر مع "الدور"، فتتألّق الذات في إبرازه، ثم تعود الموهبة ثانية إلى ذاتها وشؤونها ومشكلاتها وشجونها، فهي ليست موظفة علاقات عامة للأفراح أو الوطن أو الحكومة أو البلد أو السهرة أو الاستديو أو الكاميرا أو المنتج أو تفريعة قناة السويس، إلى آخره. الموهبة طاقة إنسانية، تُداري وتخجل وتخاف وتتوجّس وتتهيّب وتنفر وتنعزل، وقد تطول عزلتها، وقد تترك الموهبة للخياطة أو تربية الأحفاد أو القطط أو زراعة النبات أو السكن بغابة أو جبل أو واحة أو ترك المدينة كاملة للتطريز أو أعمال التريكو، لأن ذات الفنان أو الفنانة هي الحرّة، وهي رئيسة مركبها وعزلتها وخيارها الأول والأخير.
الموهبة حرّة، وليست عبدة للتقاليد أو الحكومة أو المناخ العام أو المجهود الحربي أو قطار الرحمة. الموهبة تتحرّك من ضميرها الداخلي وقناعتها، وليست عبدة لمزاج المخرج وغزواته أو رذالات المنتج وشروطه، وليست خادمة للمزاج العام أو جوّ رمضان أو أفلام العيد. وعبلة كامل ابتعدت بخفّة عن كل تلك المتشابهات، كي لا توجد كرقم موسمي، فكانت نفسها فقط في تواضع وحياء أيضاً.
ليس الفنان "بيعة طماطم أو ليمون" تظلّ معروضة في السوق، فهذا عرضٌ لا يليق، وأظنّ أن الفن كالموسيقى والنحت والكتابة يلزم صاحبها أو صاحبتها تلك العزلة الحميدة بعيداً عن معروضات السوق أو واجبات العزاء أو الحضور المملّ والسخيف في كل المهرجانات والحفلات والسهرات والبرامج، وهذا من صلب احترام الذات نفسها، بل صلب اختياراتها الإنسانية بعيداً عن واجبات أي قطيع، فهل يستطيع أحدٌ أن يسأل سيوران، مثلاً، لماذا لم يجد راحته، إلا ما بين المقابر، ولماذا لم يجد سلواه إلا في درّاجته الهوائية، التي طاف بها هائماً في بلدان أوروبا بعيداً عن المنتديات الأدبية والأكاذيب وحفلات التوقيع والجري وراء عطور الناشرين، كي يكون وحيداً تماماً، واختار حتى صديقة واحدة طوال عمره الطويل. ... ولماذا اختار أبو العلاء المعرّي عزلته النهائية وجمال حمدان وغيرهما.
ليس الكون مصنعاً للعلاقات العامة، كي نضحك ونتكاثر وتزداد ثرواتنا في البنوك، بل سعيٌ حرٌّ للذات نحو صلب نفسها، حتى وإن كانت عزلة بائع ليمون من الجيزة يجيء كل سوق بمائتي ليمونة ويصنع لنفسه خيمة فقيرة، بعصا وبشكير قديم. ويظل هكذا في جلسته بالقرب من لهيب الشمس، ويضع كل أربع أو خمس ليمونات في كومة، وتشير له عن الثمن، فيقول لك كلمتين عن سعر الكومة لا يزيد عليهما ولا ينقص، حتى تمشي من دون أن تشتري أو ترفع الكومة المحدّدة وتدفع ما طلب بلا زيادة أو نقصان، من دون أن يعرف أبداً سيوران، ومن دون أن يدقّ على باب شقّة جمال حمدان رحمه الله.