عصر ما بعد اغتيال جمال خاشقجي
يداهمنا الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول، وكأن فوّهة بركان ألقت ما فيها من حزن ووجع، يفتكان بالذاكرة التي تستسلم لاستعادة الوقائع المفزعة لاغتيال جمال خاشقجي.
تمنيّت ذات يوم ألا يكون هناك الثاني من أكتوبر في كل عام، ذلك التاريخ الفاصل بين عصرين: ما قبل اغتيال جمال خاشقجي .. وما بعده، حيث هبطت قيمة الفرد/ الإنسان العربي إلى ما دون ثمن غالون من السولار، أو أقل من دولار.
الصحيح أن الانهيار في قيمة الإنسان بدأ مع الحرائق الجماعية للبشر الأحياء في مصر، رابعة العدوية والنهضة، كما في سورية، الغوطة وحلب وإدلب، لكن واقعة استدراج خاشقجي وقتله وتقطيعه وإذابة جثته، في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول، تمثل تاريخاً جديداً في علاقة الدول بالفرد، أو على وجه الدقة: علاقة الدول بالأفراد، بالنظر إلى أن جريمة قتل جمال كانت ملفاً تتشارك فيه مجموعة من الدول والحكومات، حتى وإن كانت ثمة تناقضات عميقة في المواقف والمداخل والمقاربات.
حين أفاق العالم على كابوس اغتيال الصحافي السعودي المرموق، على يد فريق مدرّب من القتلة، نشطت في أرجاء الكوكب كله رياح الإدانة والتنديد والمطالبة بإعمال القانون الدولي، كي لا يفلت القتلة والمحرّضون على الجريمة من العقاب.
كانت الجريمة من الوضوح بحيث لا تتطلب كثير جهد لتحديد الجناة. وكما سجّلت وقتها، أننا بصدد جريمةٍ هي الأغبى في تاريخ الإجرام السلطوي، إلى الحد الذي تتعرّى معه كل الروايات ذاتياً، من دون مجهودٍ يبذله المدافعون عن دم الشهيد. إنها لعنة الدم الذي يطارد سافكيه فيجعلهم يتخبّطون في كذبهم، فتتحوّل الكذبة قنبلةً تنفجر تلقائياً في وجه حامليها قبل إلقائها على الخصوم، وكلما طال حبل الأكاذيب صارت الحقيقة أقرب وأوضح، وكلما تباطأوا في الاعتراف انكشف الفاعلون الأصليون أكثر وأكثر.
كنت واهماً حين توقعت أن دماء جمال خاشقجي الذي صار أيقونةً لكل المنحازين إلى القيم الإنسانية، الباحثين عن العدل، سوف ترسم خارطة لواقع عربي وشرق أوسطي جديد، وتعيد الاعتبار لقيمة اسمُها الكرامة الإنسانية، غابت منذ أحرق أوغاد ربيعاً عربياً، سدّ، ولو بشكل مؤقت، جوعاً ممتداً للحرية والعدل، ومذكّراً الناس بأنه من دون إنسان لا وطن هناك، وأن الوطن ليس حجارةً صمّاء وترابا أخرس، وخطوطا تمتد طولاً وعرضاً في خرائط ميتة.
كان مبعث هذا الأمل، أو الوهم، أن الجريمة هزّت ضمير العالم، حتى أن دونالد ترامب، بدا متأثراً للغاية، من بشاعة ما جرى، قبل أن يتحوّل بعد قليل إلى الاستثمار في تلك البشاعة. كما أن دولاً وحكومات وجماعات وأفراداً اعتبروا أن القتيل شهيدهم والقضية قضيتهم، وألقوا بكل ثقلهم في الموضوع، على نحو كان ينبئ بأن انتفاضة من أجل الإنسان، بما هو إنسان، قد اندلعت.
غير أن ثلاث سنوات فقط على الجريمة كانت كافية لكي يُزاح الستار عن واقع جديد أسوأ وأقسى من ذي قبل، تتآكل فيه إلى أجل بعيد قيمة الإنسان وكرامته الإنسانية، إلى أرخص مما كان قبل اغتيال خاشقجي، حيث استعاد الوطن تعريفه الأول، بأنه المكان الذي يملكه سفاحون في مسوح زعماء وقادة يقتلون البشر بشعاراتٍ زائفة، وليس، كما توهمنا، أن الوطن هو الإنسان، خلقه الله ليعمّر الأرض، فتكون أوطاناً تختار بحريةٍ من يدير شؤونها ويجعلها أكثر تحضّراً وإنسانية.