عقد الربيع العربي
من الآن وحتى أشهر طويلة مقبلة، سيحضر النقاش على نحو متكرّر بشأن مرور عقد على الربيع العربي. .. في حوزة المعارضين للثورات، منذ اللحظة الأولى، لازماتٌ مكرّرة حول كونها مؤامراتٍ خارجية. وهؤلاء تحديداً لم يوفّروا هجوماً إلا وشنّوه عليها. كانت وما تزال بالنسبة إليهم شرّا مطلقا. نجاحها غير مسموح. ولن يكون مستغرباً أن تمتلئ المواقع والصحف في الفترة المقبلة بمقالاتٍ وتقارير تعيد تكرار الثرثرة نفسها بقوالب جديدة.
أما في جعبة المنحازين للثورات، وبشكل أدقّ لما تمثّله سواء عندما بدأت قبل عشر سنوات بموجتها الأولى (مصر، تونس، سورية، اليمن ..)، أو بعدما تجدّدت بموجة ثانية (السودان، الجزائر)، فهناك فائضٌ من الحجج والأسباب، للدفاع عنها من دون تجاوز حقيقة وجود عثرات وإخفاقات وأخطاء ارتكبت، وأجادت قوى الثورة المضادّة توظيفها.
من أصل 22 دولة عربية، هناك عشر دول على الأقل شهدت ثورات أو انتفاضات أو حراكاً واسعاً. الرغبة في التغيير حضرت لدى فئةٍ واسعةٍ من مواطني هذه الدول، على مرّ هذه السنوات العشر الأخيرة. ولم يكن هذا المُراد فقط محصوراً بالشق السياسي، بل ببعديه، الاقتصادي والاجتماعي أيضاً، لأن المسارات الثلاثة مترابطة، لا يكتمل أحدها من دون الآخر.
ولكن بقدر هذه الآمال كانت العراقيل حاضرةً جنباً إلى جنب مع مخططات القوى المناهضة التي كانت جاهزةً بكامل عديدها وعتادها لإجهاض أي تحوّل. تباينت قدرتها بين دولة وأخرى واختلفت نتائج ما سعت إليه. ولذلك كان لكل دولة شهدت ثورة أو انتفاضة أو حراكاً خلال العقد الأخير خصائصها ومميزاتها ودروسها.
وإذا كانت تونس، شعلة الربيع العربي، قد نجت منذ هروب زين العابدين بن علي، فإن ما يجري فيها راهناً هو النموذج الأمثل على تحدّيات التغيير ومتطلباته. وعلى الرغم من الوعي لمهدّدات المرحلة، لكنه يبقى غير كافٍ، ما لم يقترن بعملٍ لا ينضب لتحصينها، لأنه دائماً هناك من هم مستعدّون لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء. والحديث عن حماية المكتسبات لا يحيل حصراً إلى الحراك السياسي، فلا استقرار سياسيا من دون استقرار اجتماعي واقتصادي.
وإذا كان من نموذج لتصوّر ما تقدر على فعله الثورات المضادة يكفي النظر إلى مصر، وما حدث فيها طوال السنوات الماضية، أو إلى سورية. كانت العيون في كل الدول العربية شاخصة باتجاه القاهرة وما يجري فيها. لحظة التنحّي في فبراير/ شباط 2011 خالدة في ذاكرة كل من كان شاهداً عليها. وكذلك لحظة الانقلاب وما تلاها من تنكيل مستمر بكل من لا يزال مؤمناً بما تمثله ثورة 25 يناير. السجون الممتلئة بالمعتقلين السياسيين في ظروفٍ لا إنسانية كفيلة بتذكير الجميع بخطر نجاح أي ثورةٍ مضادّة لأنها لن ترحم أحداً، طالما أن هاجس تجدّد الثورة لا يزال يؤرّق الانقلابيين، ويدفعهم نحو توسيع دائرة الانتقام. أما في سورية، فأعوام الثورة شكلت المثال الأبرز على إجرام النظام ووحشيته، ومدى قدرته على الذهاب بعيداً في تدمير البلد، وتحويله إلى مرتع للمليشيات، وتشريد ملايين المواطنين وتهجيرهم، وقتل وسجن عشرات لا بل مئات الآلاف مقابل البقاء في السلطة.
الاتفاق على توصيفٍ موحّد لما حدث في كل دولة عربية خلال العقد الأخير مهمة شبه مستحيلة، تماماً مثلما تحضر الإجابات المتناقضة والمتباعدة، رداً على السؤال الأكثر تردّداً حالياً: ومفاده "ماذا بقي من الربيع العربي؟". صحيحٌ أنه لم تكتمل أي عملية تحوّل في جميع البلدان التي شهدت ثوراتٍ أو انتفاضات، لكن أيضاً لم ينجح أي نظامٍ في وأد كامل لها، بل إن هاجسها يخيّم بشكل دائم.