علماء السلطان في مرآة ديزموند توتو
وردت، في تقرير لموقع بي بي سي الرصين عن وفاة القس الراحل قبل أيام، ديزموند توتو، عبارة كاشفة/ مؤلمة، في وصفه جهود توتو في مواجهة التفرقة العنصرية والاستبداد في بلاده، جنوب أفريقيا: "كان يصرّ دائمًا على أن دوافعه دينية وليست سياسية". والمؤلم أن يقرّر أي عربي يقرأ العبارة أن ينتقل من النص إلى الواقع، ليقارن الموقف الأخلاقي الذي يصرّ صاحبه على أن دوافعه دينية، بالحكم الذي يمكن أن يُصدره على المعيارية الأخلاقية التي يمكن استخلاصها من سلوكيات جيوش من علماء السلطان في واقعنا العربي.
وقد كان الدور الفاعل للدين في مآلات التغير العربي الممكنة أحد هموم المثقف العربي طوال القرن العشرين كله بدرجات متفاوتة، فكان هناك من يراه ضيفًا غير مرغوب فيه في الفضاء العام، ومن يراه نزوعًا صوفيًا جوّانيًا لا يحقّ له (ولا يجب عليه) أن يضطلع بدورٍ في دفع عربة الانتقال إلى الأمام. وكانت الطامة الكبرى في فريقين: أحدهما جعل الدين وسيلةً للوصول إلى السلطة، وآخر جعله وسيلةً للاحتفاظ بها. أما المسؤولية الأخلاقية لعالم الدين أن يصبح العالم أكثر عدلًا وأمنًا وأصون للكرامة الإنسانية، فلم يحظ باهتمامٍ كافٍ، ما أسهم في تسهيل مهمة السلطة في دولٍ عربيةٍ كثيرة في "استتباع" المؤسسات وتكميم أفواه المنتسبين إليها، حتى لم يعد هناك ما يفصل بين ما لله وما لقيصر، إذ أخذ قيصر كل شيء.
أسهمت ظاهرة الإرهاب "ذي الإسناد الإسلامي" خلال نصف القرن الماضي، بدور كبير في تسميم أجواء الحوار عن دور الدين في الفضاء العام بمعناه الواسع
والدرس التاريخي في تجربة ديزموند توتو متعدّد الأوجه، أحدها أن دعوات الفصل بين "الديني" و"السياسي" بدافع العلمنة أو التحديث أو الترشيد لم تعنِ حتمًا (ولا تعني حتمًا في كل زمان ومكان) إنهاء الدور الأخلاقي للدين في الحياة العامة، وبخاصة فيما يتصل ببناء فضاءٍ عام أكثر عدالة وإنسانية، والسعي إلى منعه من أن يكون أداة للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها كان يمكن أن يتحقق من دون الخطاب "الاستئصالي" الذي تبنّته بعض شرائح النخبة العربية، وهؤلاء لم يستطيعوا استخدام "مبضع الجراح"، واستسهلوا استخدام "المقصلة"!
أسهمت ظاهرة الإرهاب "ذي الإسناد الإسلامي" خلال نصف القرن الماضي، وكذلك تضخيمها، بدور كبير في تسميم أجواء الحوار عن دور الدين في الفضاء العام بمعناه الواسع. كما لعبت حقيقة أن الحركات السياسية العربية الأكثر جماهيرية خلال نصف القرن الماضي كانت تحمل، بشكل أو آخر، رمزيةً إسلاميةً، ما دفع نظما سلطوية عربية عديدة إلى التخلّص من "البديل المحتمل" متوسّعة في استراتيجية المواجهة، لتشمل اقتلاع كل ما يمكن أن يشتبه، مجرد اشتباه، في صلته بالظاهرة. ولعب هذا التوجّه الاستئصالي دورًا، لم يتم بعد تقييم آثاره الكارثية، في استئجار مؤسساتٍ غربيةٍ كانت مهمتها "المدفوعة" سنوات في تخويف الغرب من الصلة (تم تضخيمها) بين الإسلام والإرهاب، ليصبح هناك مناخٌ عالميٌّ من الرعب من كل ما له صلة بدور للإسلام في الشأن العام، وبخاصة في المنطقة العربية وجوارها، وهو ما لم يحدُث مع البوذية أو الهندوسية، أو حتى مع التوجّه المتزايد لأن تؤكّد إسرائيل طبيعتها دولة يهودية، وبعضها تجارب شهدت عنفًا دينيًا.
آلت الدافعية الدينية في بلادنا، في الغالب الأعم، إلى الانسحاب من الميدان أو الوقوف في مواجهة التغيير
وبينما لعبت حركة مثل "لاهوت التحرير" في أميركا اللاتينية دورًا مؤثرًا في مواجهة النظم الاستبدادية، في غياب الأشكال النمطية للتنظيم السياسي، لتملأ فراغًا في الخطاب والفعل على الأرض، آلت الدافعية الدينية في بلادنا، في الغالب الأعم، إلى الانسحاب من الميدان أو الوقوف في مواجهة التغيير بدل أن تعزّزه، وزاد الطين بلة تبني بعضهم القناعة بأن سياسة "الأرض المحروقة" هي الحل.
وفي كل تجارب التغيير الكبيرة في التاريخ، كانت هناك "أقلية منظّمة" تقوم بالتغيير. ومنذ الثورة الفرنسية (1789 – 1799) لم يعرف العالم كله شعبًا يثور كله، بل كانت الأقلية (ناطقة بما يعبر عن الإجماع) تغير مسار التاريخ. وفي غياب هذه الأقلية، يصبح التغيير بعيدًا، ولا توجد في تجارب التغيير الكبرى التي نعرفها تجربةٌ خلت من "معيار أخلاقي" (نقبله أو نرفضه)، فالضمير لم يزل المحرّك الرئيس للرفض والاحتجاج، ربما أكثر من الوعي. وبوفاة القس ديزموند توتو ودّع العالم واحدًا من أصوات الضمير الحي العالية.