علم فلسطيني وسط حشد الأعلام الإسرائيلية
لاحظت مراسلة قناة الجزيرة، نجوان سمرين، خلال متابعتها وقائع ليلة الاحتجاجات الكبيرة، ليلة الأحد/ الاثنين الماضي في تل أبيب، وجود شابٍّ متظاهر لا يحمل العلم الإسرائيلي أسوة بمئات المحتجين الآخرين، بل كان يحمل العلم الفلسطيني. وذكرت أنه يهودي إسرائيلي "ينتمي إلى أقصى اليسار". وقد جاءت هذه اللقطة دالّةً على انفراد هذا الشاب برؤيته وسط الجموع من دون أن يفقد حضورُه قيمته الرمزية المهمة في كسر "الإجماع"، وذلك مقابل الفصل الذي يقيمه سواد المحتجّين بين ما يعتبرونها ديمقراطية إسرائيلية مهدّدة بانقلاب قضائي وحكومي عليها وواقع استعباد القائمين على هذه الديمقراطية لشعب آخر والاستيلاء على أرضه وانتهاك مقدّساته، وهو ما يرفضه، كما يبدو، ذاك الشاب المنفرد حامل العلم. وفي وعي جُملة المتظاهرين أن الانحراف عن القيم الديمقراطية بدأ مع تشكيل حكومة نتنياهو الحالية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فيما كانت الأوضاع قبل ذاك مطمئنة في كنف مؤسّسات دولة يهودية ديمقراطية، وحيث كانت مؤسسة القضاء تلاحق رئيس الحكومة بتهم فساد، وها هو المشتَبه به قد صعد مجدّدا إلى رئاسة الحكومة، ويسعى إلى تقييد القضاء وتعيين قضاة يضمنون إخلاء ساحته وإبراء ذمته، فيما يُصار إلى منح الكنيست (السلطة التشريعية) والحكومة (السلطة التنفيذية) سلطة أعلى من سلطة المحكمة العليا (السلطة القضائية).
على أن المحتجين يغيّبون الاحتلال بوعي مقصود، كون القائمين على الانقلاب القضائي ينتمون إلى مجموعات استيطانية في الضفة الغربية المحتلة، وأهدافهم المعلنة هي تعميم الاستيطان بسلب المزيد والمزيد من الأراضي، وحل السلطة الفلسطينية، ووأد الحقوق الوطنية الفلسطينية. وبإنكارهم هذا الواقع المرئي، يؤشّر غالبية المحتجّين إلى مفهوم الديمقراطية الذي يعتنقونه، والذي يقتصر سريانه على اليهود، ويستبعد غير اليهود من الرازحين تحت الاحتلال القائم منذ 1967. بما يجعل الفوارق بينهم وبين من يحتجّون عليهم كمّية لا نوعية، وتتعلق بالأسلوب لا بالنهج بما يتعلق بالآخرين، فالمحتجّون يريدون أو لا يمانعون بغزو استيطاني مبرمج تنظّمه الدولة وترعاه، بينما المحتجّ عليهم يريدون استيطانا غير مقيّد، ويقوم على مبادرات شبّان التلال وعلى إحراق مزروعات الفلسطينيين وممتلكاتهم، وحتى إحراق بلداتهم على غرار إحراق بلدة حوارة جنوب نابلس، بل إن المحتجّ عليهم يحاجِجون بأنهم يتشبثون بالخيار الديمقراطي، على غرار غيرهم، وأن الشعب قد اختارهم كي يمثلوه، وهم يريدون إدخال تعديلاتٍ باسم الشعب، وتستلهم المقدّس الديني في الاستيلاء على أرض الفلسطينيين (العماليق)، وليس الاكتفاء بمراعاة المعايير الغربية للحكم.
يدور الصراع حول السلطة، وعلى من يمثلها ومن يقودها حاضرا ومستقبلا، وعلى مدى مراعاة العالم الخارجي والعلاقات مع الغرب عموما
من الأهمية بمكان الإشارة إلى الجوامع التي تضم الطرفين المتنازعيْن، إلى جانب الفوارق والاختلافات بينهما. ومن أبرز هذه المشتركات أن الطرفين، ومن ضمنهم المعارضة الحالية بزعامة يئير لبيد وبني غانتس، قد أقرّوا معاً قانون القومية اليهودي قبل خمسة أعوام أو وافقوا عليه لاحقا، وهو القانون الذي يمنح كامل أرض فلسطين التاريخية للشعب اليهودي، والذي يقضي بتغليب الطابع اليهودي والمصالح العليا اليهودية على الاعتبارات القانونية والقضائية اذا ما تصادمتا. غير أن شقّة الخلاف واسعة بين الجانبين، ولا يخلو هذا الخلاف من عناصر احتدام، إذ تثور السجالات ويحتدّ النزاع بشأن أحقية قوى اجتماعية وأيديويولوجية جديدة في تصدّر المشهد السياسي، وفي تقرير وجهة الدولة وتحديد خياراتها الداخلية. وتنتمي هذه القوى الجديدة لمجموعات المستوطنين ومنظماتهم الدينية، ممن يرون في أنفسهم أهلاً لقيادة مرحلة جديدة، عنوانها وفحواها إتمام الضم الفعلي والسيطرة التامة على الأراضي المحتلة. وكما أن مؤسّسي الدولة نجحوا في إقامة الدولة العبرية عام 1948، فهم يرون في أنفسهم رواداً لحقبة الاستيلاء التام على الضفة الغربية عبر الاستيطان المكثف، والتنكيل المنظّم بالمواطنين الفلسطينيين عبر تشكيل حرس وطني لهذه الغاية، ودفعهم إلى الهجرة أو الاستسلام، تماما كما حدث قبل 75 عاما. هذا من دون أن يكون هناك خلاف سياسي استراتيجي مع المحتجّين الذين يرغبون بأن يجري الضمّ بهدوء وبغير صخب، وبصورة منهجية مطردة، لا بصورة عشوائية استعراضية كما يرغب زعماء المستوطنين. وعليه، يدور الصراع حول السلطة، وعلى من يمثلها ومن يقودها حاضرا ومستقبلا، وعلى مدى مراعاة العالم الخارجي والعلاقات مع الغرب عموما، أميركا على الخصوص. ولا يدور حول المشروع الصهيوني في هذه المرحلة، والذي تتلاقى عليه مكوّنات اليمين والوسط والرافض للحلول السياسية والرامي إلى حشر أصحاب الأرض في كانتونات معزولة، مع تمتيعهم بسلام اقتصادي تنشط فيه الأعمال والمشاريع التجارية، وتضمحل فيه معالم الكيان السياسي المستقل. وهذه، على كل حال، كانت سياسة الحكومة السابقة، حكومة لبيد وبينت، المؤيدة بقوة للاستيطان، والتي كانت ترعى الاقتحامات شبه اليومية للمسجد الأقصى.
لا تكفي إدانة أشخاص بعينهم أو منظمات بذاتها، بل إن نهج الاستيطان والتمييز العنصري واستباحة المقدّسات هي ما يستحق إدانته
ويسترعي الانتباه هنا أن الإدارة الديمقراطية، بمن في ذلك البيت الأبيض في واشنطن، أبدت تفاعلا ملحوظا مع التطورات الداخلية الإسرائيلية وأظهرت امتعاضها من جموح وزراء في حكومة نتنياهو نحو تنفيذ الانقلاب القضائي، وذلك في اتصالات مكتومة مع حكومة نتنياهو كما ذكرت صحف إسرائيلية، غير أن هذه الإدارة كما إدارات أميركية سابقة لم تلحظ أن القائمين على الانقلاب القضائي هم من أشد المناوئين للحل السياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والساعين إلى حل استئصالي يسمّى خطة الحسم. كما لم تلحظ إدارة بايدن أن الحكومات الإسرائيلية السابقة قد رعت النهج الاستيطاني، وأسهمت في توليد ظاهرة زعماء جدد على شاكلة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما من عنصريين يتحيّنون فرصة للظهور. وبينما لا تتوانى إدارة بايدن عن وصف مجموعاتٍ يمينيّة متطرّفة في أميركا بأنها تمثل الإرهاب الأبيض، فإن هذه الإدارة تغضّ النظر عن إرهاب قادة الغزو الاستيطاني وسعيهم إلى تشكيل شرطة رديفة لاستباحة أمن الفلسطينيين. وقد سبق أن وُصمت منظمة كهانا أميركيا بأنها إرهابية، وهو التصنيف الوحيد الذي تستحقه منظمات مثل "القوة اليهودية" و"الصهيونية الدينية" ومن يأتلف وينسق مع هاتين المنظمتين الإجراميتين. علماً أنه لا تكفي إدانة أشخاص بعينهم أو منظمات بذاتها، بل إن نهج الاستيطان والتمييز العنصري واستباحة المقدّسات هي ما يستحق إدانته، أيا كان القائمون عليه، سواء انتموا إلى معسكر لبيد وغانتس، أم كانوا شركاء حاليين لنتنياهو.
ولا شكّ بعدئذ أن الإسرائيلي حامل العلم الفلسطيني، وإن بدا وحيدا، إلا أنه يمثل تيارا يضمّ اليسار (ميرتس على الخصوص) وشخصيات أكاديمية وفنية واجتماعية مستقلة، غير أن هؤلاء لا يجدون في هذه المرحلة من يمثلهم، وسط انجراف المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين بمختلف تلاوينه.