على رِسلِكَ أيّها الحنين
حنانيْك، يا حنين. تمهّل في قدومِك. حاوِل أن تتأخّر، أو اترُك قدومك إليّ يصيرُ قليلا. ما بك تفترس وقتي؟ تجتاحُني ساعاتٍ. تأتي إليّ كل مساء في كل يوم. وإذا يحدُث وغِبتَ تعودُ مُباغتا، وكأنك تأسَف، فيما لا أحتاجُك إلا عندما أحتاجك فقط، ولا أفعلُ هذا كلّ مساء، كما يُخيّل إليك. على رسْلِك، كُن خفيفاً، تعالَ ببطء، أو تباطأ. اجعلني أفتقدُك، وقد صرتَ ثقيلاً على روحي، ولم أحبّ لك هذا. لو تتأنّى ما أمكنك أن تفعل. قرأتُ أنك عاطفةٌ أصيلةٌ في فطرة الإنسان، وأنتَ هكذا حقّاً، وعاطفةٌ أصيلةٌ في حشاياي. ولكنّ هذا لا يعني أن تستبدّ بي، وأن تأكُل مساءاتي وبعضَ نهاراتي، كما أصبحتَ تفعل منذ شهورٍ لا أستطيع عدّها. لا أودّ سؤالَك ما إذا كنتَ تزور آخرين بالكثرة هذه كما تصنَع معي. أعرفُ أنك النّجوى مع القديم، والشوقُ إلى ماضٍ، إلى صور في الذاكرة، إلى زمن أبعد وديعٍ، لم يكن ضَجِرا، كان الناس فيه أقربَ مني وإليّ. كانت الأمزجة أصفى، القلقُ أقلّ، المحبّاتُ غزيرةٌ، الوقتُ وفيرٌ، الدماغُ أقلّ كثافة، البركة في الموجود وهداءة البال والقناعة بالحال والتفاؤل بالقادم والبساطة سيّدةٌ والغبطةُ بأفراح صُغرى وكُبرى. أشتاق إلى هذه كلها، وأخرى مثيلاتٍ لها، كما كل الناس في طبائعها، غير أني لا أريد أن أُفرِط، ولا أن يحتلَّ الناس البعيدون، المقيمون في زمن مضى منذ زمن، شاشة دماغي، ولا أن أجول كثيرا في صور من الطفولة واليفاعة الأولى والصبا وبعض الشباب، ولا أن أُسرف في استدعاء أيامٍ وأيام، كنّا فيها كذا، وكانت فيها الدار كذا، وكانت الدنيا غير الدنيا التي صِرنا نعرف، كانت المدرسة على غير مدارس الأبناء التي صرتُ أرى، كانت الجامعة أوْزَن مما يصل الآن إلى مسامعي، كان ثمّة ألفة في الحارة، مع جيرانٍ في يمين الدار وجيرانٍ في يسارها. كانت قروشٌ تشتري ما تشتري من البقالة التي كبرُت أمام عيوننا. كان الأبيض والأسود على شاشة التلفزيون، بقناتيْه، بعد السادسة والنصف إلى ما قبل الواحدة ليلا، أبهجَ مما صارت الألوان تأتي به على قنواتٍ بلا عدد، آناء كل الليل وآناء كل النهار. كانت نشرة الأخبار في الثامنة كافيةً لتعرف الذي يستجد في كل العالم، وليحدّثك الأكبر منك عن الذي سيستجدّ بعد أيام وبعد أسابيع. كانت حيازة شريط كاسيت لعبد الحليم أو ذياب مشهور أو أم كلثوم ميزةً لا يُحرزها أيُّ أحد.
ولكن، كلُّ هذه الركاكات بين ظهرانيْك، وتُحاصرك، وكل هذه الرداءات التي يضجّ بها حاضرُك، يجعلانِه عسيراً عثورَك على بهجةٍ في هذا الموضع أو ذلك. كتب محمود درويش إن الحنين وجعُ البحث عن فرحٍ سابق، وإنه وجعٌ من نوعٍ صحّي، لأنه يذكّرنا بأننا مرضى بالأمل وعاطفيون. ... ربما هذا تشخيصٌ صحيحٌ، فأنت تأتي بالماضي إليك ليُسعفك في تبرّمك من راهنٍ، يتكّدر فيه الحالُ والمزاجُ معاً، وفي ضيقِك من خرابٍ يفيض حواليْك، في غير أمرٍ وشأن. لكن المشكلة الأساس في الذي قاله درويش، في نصّ غير قليل السطور عن الحنين، أنّ صاحبَه شاعرٌ، ومهمّة الشعر ملاحقة المجاز. والحقيقيّ والمجاز حاضران في قولةٍ أخرى له "الحنين هو زائر المساء حين تبحث عن آثارك في ما حولك، ولا تجدها...". أما في منطق العلماء، فثمّة بعضهم يذهبُ إلى أن "الحنين إلى الماضي" يُسهم في زيادة القدرة على الابتكار والإبداع. وقال واحدٌ منهم إننا نستعيدُ الذكريات ذات المغزى فقط، ما يزوّدنا بالثقة للمضيّ إلى الأمام. ولعله كان طيّبا من دارسين انشغلوا بهذا كله، عندما جاءوا على فرْقٍ بين الحنين الذي يحقّق فوائد نفسيّة قويّة، في قدرته على ربطنا بأنفسنا وأحبّائنا، والحنين الذي يجترّ الماضي من دون تفكيرٍ أو تأمل.
لستُ معنيّاً بكلام الشعراء، ولا حتى بحكم الحكماء، في شأن الحنين بأنواعه ومنازله كلّهما، ولا بالذين سمّوا صوت العود عند النقر عليه حنيناً، ولا بالذين استفاضوا في مبحث حنين المُغتربين والمنفيين والمهاجرين إلى أوطانهم ودورِهم. لستُ معنيّاً إلا بحنينٍ فيًّ صار مُقلقاً، أخشى أن أصيرَ مريضاً به، ثم مريضاً بالأمل بشفاءٍ منه. لا أعرفُ إن كنتُ أمضي إلى هناك، ولا أملكُ غير مناداتي الحنين: على رسلِك، كن خفيفَ الظلّ، ولا تُثقل الوقتَ بك. رجاءً.