علي فرج أجدع من أردوغان
"لا أحد يرضيه ما يحدث في أوكرانيا من قتل وطغيان. وبما أنّه لم يكن مسموحاً لنا خلط الرياضة بالسياسة. والآن، وفجأة، أصبح مسموحاً، فهذه فرصةٌ لينظر العالم إلى الطغيان الذي يحدُث في كلّ مكان. وأعني هنا الفلسطينيين الذين يعانون منذ 74 عاماً مما يعاني منه الأوكرانيون الآن، أرجو أن تضعوا ذلك في الاعتبار"... ما سبق جزء مهم من كلمة البطل المصري، علي فرج، المصنّف الثاني عالمياً، في لعبة الاسكواش، عقب فوزه ببطولة أوبتاسيا في لندن الأسبوع الماضي.
يتزامن ذلك مع زيارة رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي أنقرة، واستقبال الرئيس أردوغان له، وجدالات حول أردوغان الآن، وأردوغان دافوس، الذي تشكّلت صورته الذهنية لدى كثيرين، خصوصاً من العرب، بوصفه "الدكر" الذي واجه شيمون بيريز، باتهاماتٍ واضحةٍ وصريحةٍ بقتل الأطفال، ولم يفعلها غيره من حكامنا البؤساء التعساء... بالمناسبة: قال أحمد داود أوغلو إنّ أردوغان كلفه بالاعتذار لبيريز بعد دقائق من واقعة دافوس.
انتشر فيديو اللاعب المصري "الجدع"، والذكي، علي فرج، ولاقى استحساناً لدينا، وأيضاً في لندن، حيث تجاوب الحضور مع "منطق" فرج، الذي لم يستخدم خطاب المظلومية، كما لم يُزايد بفجاجةٍ على تناقض الغرب، إلى عدم السماح في الماضي، الذي تغير الآن. وكان ذلك، وحده، كافياً، ليضع الجميع أمام مرآة انحيازاته، من دون حاجةٍ إلى الصراخ، أو إهانة الطرف الآخر، الأقوى، وتحويله إلى خصم، فعلها فرج بذكاءٍ وهدوءٍ يليقان بسياسي، وليس رياضياً.
جاءت التعليقات في أغلبها إيجابية، لكنّها لم تخلُ من بعض المناكفات، يزايد صديقٌ ويقول: لماذا لم يفعلها محمد صلاح؟ فرج أجدع من صلاح، فأقول، مزايداً بدوري: فرج أجدع من أردوغان نفسه، الخليفة المتخيّل الذي يستقبل العدو، وينضم إلى نادي "مطبّعون ونفتخر". تبدو المقارنة بين فرج وأردوغان كوميدية، لكنّها ليست كذلك وفق منطق التفكير السياسي الرائج، المزايدة بدلاً من التفهم، والقبلية بدلاً من النقد أو المعارضة، والمتخيّل بدلاً من الواقع. من البديهي أنّ توازنات لاعب اسكواش غير توازنات لاعب سياسي بحجم أردوغان، ودولة بحجم تركيا تمرّ بمحنة اقتصادية، موجعة. كما أنّ المتاح أمام فرج غير المتاح أمام أردوغان، وغير المتاح أمام صلاح بالمناسبة. من هنا، يمكننا أن نفهم لماذا "يستطيع" فرج، ولا يستطيع أردوغان أو صلاح، بصرف النظر عن الانحيازات القلبية التي لا يمكننا، أبداً، الكشف عنها أو التقييم والمحاسبة بناء عليها. يكون المشكل في أنّه لا معيار، في حالة أردوغان مثلاً. التفّ الرجل حول دستور بلاده، ونفّذ انقلاباً مدنياً، ليستمر في الحكم سنوات إضافية، بالمخالفة للشرط الديمقراطي. وأول من برّر ذلك، في المجال العام العربي، إسلاميون، يعيشون في تركيا، ويتباكون، ليل نهار، على فشل التجربة الديمقراطية في مصر، بسبب تآمر النخب العلمانية، كلها، مع السيسي وبن زايد وبن سلمان وأوباما، وما يستجد من متآمرين. يتكرّر الأمر نفسه في المناقشات السياسية... الدينية... الرياضية... لا معيار، كما أنّه لا منهج، تستدعى الآيات والأحاديث لتبرير ما هو دنيويٌّ محض، ويستدعى المنطق، والتوازنات، والإكراهات، والتكتيكات، والخطط المرحلية، لتبرير ما هو أخلاقي، ومبدئي، ولا يخضع لهذه المعايير المادية والنفعية، على الأقل وفقاً للروايات السابقة للقبيلة الأردوغانية.
في الأخير، الأتراك أوْلى بقضاياهم، وأدرى بشعابهم، كما أنّ الهمّ المحلي، والعربي، أوْلى بالانصراف إليه، خصوصاً أنّه لا مقارنة في درجات التخلف والانحطاط، بين العالم العربي وتركيا. يتفوّق العرب على طول الخط، الأنظمة الأكثر استبداداً، والأسعار الأكثر جنوناً والعملات الأكثر انهياراً، والتعليم الأكثر انحداراً، والأوضاع الحقوقية والإنسانية الأكثر زراية، ناهيك عن ملف الخدمات، إلا أنّ الفائدة المرجوّة من متابعة الجدالات عن أردوغان وتجربته، ومراقبة آرائنا وتبريراتنا ومقارناتنا وقياساتنا، ومفاهيمنا عن الدين والدولة والسلطة والمعارضة هي محاولة اكتشاف أنفسنا، والإجابة الحقيقية، لا المتخيّلة، عن الأسئلة: لماذا فشلنا؟ لماذا تراجعت ثوراتنا؟ ولماذا عادت الأنظمة الاستبدادية، ولماذا استمرّت، وكيف ترحل؟