عمليات ما قبل رمضان في فلسطين
قبل أيام، وفي أثناء ندوة عقدت في عاصمةٍ عربية، علّق سفيران أميركيان سابقان في إسرائيل على مستقبل القضية الفلسطينية، بأنّه يجب أن يدرك الفلسطينيون أنّ العالم يتغير، وأن العالم مشغول عنهم بأوكرانيا وإيران، وأنّ العرب يتحدّثون عن هذا مع الإسرائيليين وليس عنهم، وأنّه قبل ثلاثين عاماً حصلوا على اتفاق أوسلو لأنه كان لديهم انتفاضة، والآن لا شيء لديهم، وبالتالي أقصى ما يمكن تحقيقه حالياً تحسين ظروف المعيشة، وربما توسعة مناطق "أ" في الأراضي تحت سيطرة السلطة الفلسطينية قليلاً، من مناطق "ج". ردّ الحضور الفلسطيني من سياسيين وأكاديميين بأنّ هذا وهم، وأن الفلسطينيين قادرون على العودة إلى المشهد.
حتى كتابة هذه الأسطر (صباح الأربعاء 30 مارس/ آذار) قُتل 11 إسرائيلياً في عمليات إطلاق نار وطعن في داخل الأراضي المحتلة عام 1948، في أسبوع. بدأت بعملية طعن في بئر السبع، جنوبيّ فلسطين، (22 مارس/ آذار)، ثم عملية إطلاق نار في مدينة الخضيرة، بين يافا وحيفا شمال فلسطين (27 مارس/ آذار)، ثم إطلاق نار في الوسط قرب تل أبيب (29 مارس/ آذار). وقام بالعمليات الأولى والثانية فلسطينيون من داخل الأرض المحتلة عام 1948، والثالثة فلسطيني أو أكثر من الضفة الغربية المحتلة عام 1967. ويجدر فهم هذه العمليات في سياقات ثلاثة: عملية "الفراغ"، و"الإفراغ"، و"الأمننة".
ضغط عالمي على الفلسطينيين، رغم التزامهم رسمياً المقاومة السلمية، لإفراغ قضيتهم من معناها ومحتواها
تاريخياً، كان وجود فراغ سياسي وتجاهل القضية الفلسطينية سبباً أساسياً لانتفاضات فلسطينية، وذلك على عكس ما قد يتوقع، أو يتمنّى، بعض السياسيين الذين يعتقدون بإمكانية تنحية القضية الفلسطينية جانباً. بدأت الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، ونشأت حركة فتح والفصائل الفلسطينية يوم تجاهل العالم فلسطين، وانشغل العرب في حرب اليمن بين مصر والسعودية. وجاءت انتفاضة 1987 بعد شعور الفلسطينيين بعزلة قيادتهم في تونس وتجاهل قضيتهم، فقبل تلك الانتفاضة بأيام بدت قضية فلسطين ثانوية في القمّة العربية في عمّان. وفي 2015، تجاهل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وأغلب قادة العالم والعرب قضية فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم يذكروها، على الرغم من أن إسرائيل كانت قد أفشلت للتو المفاوضات بشهادة وزير الخارجية آنذاك، جون كيري، فحدثت هبّة من الشباب الفلسطيني استمرّت حتى ربيع 2016. أما الآن، فجرعة التجاهل مضاعفة، حد الإهانة، فهناك لقاء عربي إسرائيلي غير مسبوق عقد في جنوب فلسطين، ضم وزراء خارجية إسرائيل ومصر والإمارات والمغرب والبحرين بحضور وزير الخارجية الأميركي (28 مارس/ آذار)، وقبل هذا لقاء ثلاثي جمع رئيس وزراء الاحتلال، نفتالي بينت، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، في شرم الشيخ (22 مارس/ آذار)، ولقاءات أخرى.
ثانياً، هناك ضغط عالمي على الفلسطينيين، رغم التزامهم رسمياً المقاومة السلمية، لإفراغ قضيتهم من معناها ومحتواها، رغم مخطّطات إفراغ أرضهم منهم، ولنزع شرعية نضالهم بأيديهم، وإنهاء روايتهم الوطنية. فمثلاً، توقفت المساعدات المالية العربية والأميركية للفلسطينيين، وتحديداً للسلطة الفلسطينية، بشكل شبه تام (ربما باستثناء الجزائر ومساعدات أخرى صغيرة جداً)، بالتزامن مع خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب (الصفقة النهائية) التي رفضتها القيادة الفلسطينية، ولم تستأنف المساعدات. وأخيراً، يمنع الأوروبيون منذ أكثر من 15 شهراً تقديم مساعدات للسلطة الفلسطينية، ويضعون شروطاً قبل دفعها، أهمها تغيير مناهج التدريس الحالية، لأنها ترفض الاحتلال وتؤكد شرعية المقاومة، وإلغاء "الاحتضان" الفلسطيني للأسرى، سواء احترامهم والمطالبة بإطلاقهم، أو من حيث دفع مخصصات لإعالة عائلاتهم هم وعائلات الشهداء، أو بسبب مساعدتهم، ولا سيما بعد تحريرهم.
ما لا يريد العالم إدراكه أنّ تجاهل القضية الفلسطينية لا يؤدّي إلى نهايتها
هذا الإفراغ للرواية يرافقه إفراغان: ديموغرافي ومادي، عبر النمو غير المسبوق في نشاط المستوطنين والاستيطان. مثالاً، في عملية الطعن في بئر السبع، لا يمكن تجاهل عمليات جرف البيوت وإزالة القرى لأهالي النقب العرب، ولا يمكن عدم الربط بين منفذ العملية أحمد أبو القيعان ومعلم المدرسة يعقوب أبو القيعان، الذي قتل بدماء باردة عام 2020، في أثناء تهجير أهالي قرية أم الحيران، الفلسطينيين في النقب لإسكان مستوطنين يهود مكانهم، أو عدم الربط مع قرية العراقيب البدوية التي هدمت نحو مائتي مرّة. بالمثل، يشعر أهالي أم الفحم التي جاء منها منفذو العملية الثانية بالتمييز ضدهم، كل يوم، وخصوصاً بعد قانون القومية اليهودي الذي أُقرّ عام 2018، وأخيراً نزول المستوطنين للاعتداء على الفلسطينيين، وزيادة عدد المستوطنين ليصبح نحو 25% من سكان الضفة الغربية (أكثر من 700 ألف مستوطن)، كلها سياقاتٌ يراها الفلسطينيون، ولا يريد العالم أن يراها.
السياق الثالث، هو الأمننة للقضية الفلسطينية، فالمسؤولون الإسرائيليون يريدون من الفلسطينيين والعرب نقاش قضية فلسطين فقط من زاوية الحفاظ على الأمن، وحتى المسؤولون الذين يقابلون القيادة الفلسطينية يرفضون نقاش أي حل سياسي، ويريدون نقاش الأمن فقط. وعلى الأقل، كما جاء في الإعلام، إن اللقاءات العربية الإسرائيلية التي عُقدت أخيراً بحثت ضمان ألّا يحدث تصعيد أمني في أثناء شهر رمضان.
ما لا يريد العالم إدراكه، أنّ تجاهل القضية الفلسطينية لا يؤدّي إلى نهايتها، وأنّه لا حل أمنياً أو اقتصادياً لها. واستمرار الضغط على الفلسطينيين، وتجاهل قضيتهم، ينذران بشهر رمضان شبيه بأشهر أخرى من حيث التصعيد.