عندما تتجرّأ إسرائيل على معهد غوته
كان على معهد غوته في تل أبيب أن يكون صريحا، فلا يتشاطَر، عندما يُعلن، في موقعه الإلكتروني، إن ندوة "فهم ألم الآخر: الهولوكوست والنكبة وثقافة التذكّر"، والتي كان مقرّرا أن ينظمّها يوم الأربعاء الماضي (9 نوفمبر/ تشرين الثاني) تأجلت إلى يوم أمس الأحد. كان عليه أن يعلن إن الندوة أُلغِيت، ليس فقط لأن هذا ما حدث فعلا أمس، بل لأن "المكتوب يُقرَأ من عنوانه"، فالعُصاب الهستيري الشديد السّخط الذي بدا في بيان الخارجية الإسرائيلية ضد الندوة طالب بوضوحٍ بإلغائها "نهائيا" (بتعبيره)، لأن الوزارة لن تتوقّف عند تأجيل الموعد المعلن، المتزامِن مع ذكرى "ليلة البلّور" (1938) الخاصّة بيهودٍ ألمانٍ تعرّضوا لاعتداءات نازيين. لقد بدا أن المعهد الثقافي الألماني (الحكومي الرسمي) في حال المستَضعَف الذي ليس في وسعه أن يتصدّى لأيٍّ من الركلات العنيفة التي جرى تسديدُها ضدّه، ليس فقط من الحكومة الإسرائيلية ممثلةً بوزارة الخارجية، وإنما أيضا من مراكز ومنظمّاتٍ وشخصياتٍ في الدولة العبرية والولايات المتحدة وغيرهما. .. بحسب هؤلاء، اقترف "غوته" فعلةً شنيعةً لا يمكن الاستهانة بها، كيف لا، والندوة (الملغاة) كانت ستأتي على ألم آخرين، في معرض حديثٍ عن الهولوكست. وهذا من محرّماتٍ متوطّنةٍ في العقل الإسرائيلي، اليهودي العريض. رأت الوزارة المذكورة الندوة حدثا مشينا، وجهرت بـ"اشمئزازها وصدمتها" مما سمّتها "نيّة التحريف" في الندوة. ورأى مركز سيمون فيسنتال (مقرّه لوس أنجليس) أن "من المخزي أن يتحدّث أي ألماني عن الهولوكوست والنكبة في سياق واحد"، وأن ربطا من هذا النوع "إهانةٌ فظيعةٌ لذكرى المحرقة ولدولة إسرائيل وللناجين من المحرقة وللحقائق التاريخية".
لم تنعقد الندوة حتى نتعرّف على ما كان سيقولُه المشاركون فيها، ومنهم أستاذ تاريخ الهولوكست ومدير معهد أبحاث اليهودية المعاصرة في الجامعة العبرية، عاموس غولدبرغ، والباحث الفلسطيني في معهد فان لير، الأكاديمي في النظرية السياسية، بشير بشير. لقد استفظعت إسرائيل، ومعها أذرعٌ تعتنق عقيدة احتكار اليهودي الألم، ما كانت "تتوقّع" أن يُقال في الندوة، فمارست الرقابة المسبقة، في تعدٍّ ظاهرٍ على منطق الحرّيات الأكاديمية وحرّيات الرأي والتفكير. كانت الندوة ستناقش كتاب الألمانية، شارلوت فيدمان، "استيعاب ألم الآخرين". وقد جاء في دعوة معهد غوته للندوة (كان سينظّمها بالتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورغ في إسرائيل) أن موضوع الذاكرة يشكّل حيزا للصراعات السياسية في دولة إسرائيل. وليس من خلاصةٍ بديهيةٍ في التجرّؤ العُصابي الذي استهدَفت به دولة الاحتلال (ونخبتها المثقفة) ندوةً لم تكن ستفعل شيئا إلا مناقشة كتاب (!)، سوى أن الخوف يجلس القرفصاء في العقل الإسرائيلي، الخوف من أن يتشابه اليهودي مع أي آخر. لا يجوز هذا، على الآخرين، أيا كانوا وفي أي مطرحٍ في الأرض، وفي أي زمن، أن يكونوا أقلّ ألما. قالت غولدا مائير إن الإسرائيليين لا يقتلون المدنيين الفلسطينيين، بل إن هؤلاء الفلسطينيين جعلوهم يفعلون هذا.
ولكن، من قال إن الفلسطينيين يشيعون أن فظائع دولة الطرد والتهجير والقتل والاستيطان فيهم تُشابه المحرقة التي اقترفها النازيون في اليهود (كم عددهم؟). ليس هذا مطلوبا أبدا، ولا يجوز القول به. إنما القول إن الفلسطينيين ليس مطلوبا منهم أن يدفعوا أكلاف الجريمة الأوروبية تلك. ليس من الإنسانيٍّ أبدا أن يزاول الغرب تعاطفه مع اليهود ضحايا المحرقة بمنح وطن الفلسطينين لهم، وبأن يُجيز لعصاباتٍ قام عليها جيش الدولة العبرية بأن يقترف ما يشاء من فظاعات، في الطنطورة ودير ياسين والدوايمة وخان يونس ومواضع أخرى عديدة في فلسطين، بل وأن تُرمى جرائمها تلك، وكثيراتٌ غيرها منذ ما قبل نكبة الاقتلاع في 1948، إلى النسيان والتناسي. لم يكن مطلوبا من ندوة معهد غوته المُلغاة أن تساوي بين الهولوكست والنكبة، ولا أن توازي بينهما، ولا أن تنشغل بمقارناتٍ بينهما. ولا أظنّ أن المشاركين فيها كانوا سيعمَدون إلى شيءٍ من هذا، إنما كانوا يريدون التشديد على أن لأي ضحيةٍ كلّ الحقّ في أن تحمي ذاكرتها، أن تسيّج آلامها بما تستحقّها من مكانةٍ في التاريخ الإنساني والكوني. ليس هذا جهد الشعراء وأهل الأدب، والمشتغلين بالمجازات والاستعارات، فقط، وإنما أيضا المؤرّخين والمشتغلين بالماضي الموصول بداهةً بالحاضر ... من هنا، ذكّرتنا واقعة التجرّؤ الإسرائيلية المشينة على معهد غوته بأن حرب الذاكرة شرسةٌ مع عدو عنصري، أي بين العرب ودولة الاحتلال بتعبير أوضح.