عندما تستعين السياسة الأميركية بالموسيقى؟
كانا، عزفُ وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، على الغيتار، وغناؤهُ واحدةً من أشهر أغنيات البلوز، الأربعاء الماضي في مقرّ الوزارة في واشنطن، جيّديْن، وربما دلّا على كفاءةٍ لديه، تؤهّله لتطوير موهبته الفنيّة، لو أعطاها الوقت اللازم. غير أن المناسبة التي أدّى فيها الوزير معزوفة الأغنية، عن الولد الجميل الذي تحبّه الفتيات، تشيع أرطالاً من العَجب، فهي إطلاق "مبادرة دبلوماسية الموسيقى العالمية". وعندما لا يُخبرنا بلينكن في "تغريدته"، المرفقة بمقطع غنائه وعزفه، عن مقاصد هذه المبادرة، فإن بيانا لوزارة الخارجية يُسعفنا بأنها تهدف إلى "وضع الموسيقى في خدمة طموحات الدبلوماسية الأميركية وتعزيز التبادل الثقافي". وجاء في شروح صحافية أن هذا يشمل "ترويج السياسة الخارجية الأميركية من خلال الموسيقى"، وأن المبادرة ترمي أيضا إلى إنشاء "شراكاتٍ بين القطاعيْن، العام والخاص، مع الشركات الأميركية والمنظمّات غير الربحية لاستخدام الموسيقى لمواجهة التحدّيات الحالية، ونقل القيادة الأميركية على مستوى العالم، وإنشاء اتصالاتٍ مع العالم". وليس في هذا الكلام خوارزمياتٌ ليرتبك واحدُنا في تفسير هذه "التقليعة" الأميركية، غير أنه سؤالٌ يحضُر، ويتعلّق بأسباب اختيار الأردن والسعودية والصين محطّاتٍ، أولى فيما يبدو، للمبادرة، الطريفة ربما، فالمقرّر، بحسب بيان الخارجية، أن يُحيي عازف الجاز هيربي هانكوك (83 عاماً)، ومعه المغنيّة دي بريجووتر (73 عاما)، وفرقة موسيقى الجاز في جامعة كاليفورنيا، حفلاتٍ، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، في الأردن والسعودية. واحتفالا بالذكرى الخمسين لجولتها في الصين في 1973، ستقدّم أوركسترا فيلادلفيا الفلهارمونية حفلاتٍ في مدن صينية الشهر المقبل.
تُستضاف فرقٌ موسيقية أميركية في البلاد العربية، وتلقى استقبالاً طيّباً، ويُشاهد العرب الأفلام الأميركية بحماسٍ كبير. إذاً، ما الذي يقيم في أدمغة خبراء وزارة الخارجية الأميركية، وهم يفترضون أنّ حفلاتٍ لفرقة جاز في السعودية والأردن ستُحدِث أثراً ما، يتوخّونه في المملكتيْن؟ ليس جديداً أن تنشط الدول في الدبلوماسية الثقافية، لتأكيد حضورٍ ثقافيٍّ ولغويٍّ وفنّي لها في العالم، وهذا حادثٌ دائماً، وبديهيٌّ ذائع. ولطالما سُعدنا، في غير بلد عربي، في المشرق والخليج والمغرب، بفرقٍ موسيقيةٍ وعروضٍ فنيةٍ متنوّعةٍ من الولايات المتحدة، مدفوعين بوجوب معرفة ثقافات الشعوب والأمم والحضارات وفنونها، وفينا الرغبة نفسُها بأن يعرف العالم ثقافتنا وإبداعاتنا. إذاً، أيّ مبتغىً يجعل الخارجية الأميركية تتوسّل الموسيقى في "مبادرةٍ" من النوع الذي أخبرَنا عنه بلينكن، العازف الذي يحتاج أن يعرف أن جمهورا عربيا سيستقبل فرقة الجاز تلك بتقديرٍ لو أنها غير مُبتعثةٍ من الخارجية الأميركية، ولا تغنّي للأردنيين والسعوديين ضمن مبادرة حضر في إطلاقها مسؤولون كبار في إدارة الرئيس بايدن، وأعضاء كونغرس جمهوريون وديمقراطيون، مع صنّاع موسيقى، وأعلامٌ من مؤسّسات معنية بالفنون والعلوم الإنسانية، على ما قرأنا.
لم يعد سرّا أن المخابرات المركزية الأميركية تولّت "مسؤولياتٍ ثقافية" إبّان الحرب الباردة مع الشيوعية، وكتاب فرنسيس ستونز سوندرز "الحرب الثقافية الباردة وعالم الفنون والآداب" (نقله إلى العربية صديقنا الراحل طلعت الشايب)، يشرح تفاصيل عن إنشائها "منظمّة الحرية الثقافية" في 1950 (تحوّلت في 1967 إلى الاتحاد الدولي للحرية الثقافية) التي أوجدت فروعا لها في 35 دولة، ومن بين أنشطةٍ كثيرةٍ لها، أصدرت مجلاتٍ عديدةً ذات تأثير. فضلاً عن وسائل نشطت فيها دوائر أميركية لنشر المزاج الأميركي في الغناء والفن واللباس والطعام. ويُؤتى على ذلك الكتاب الشائق (صدرت طبعتُه الأولى بعنوان "من الذي دفع للزّمار") وفي الظن أنّ الولايات المتحدة ربما غادرت طرائقها تلك في "الشغل" الثقافي، غير أنه سوءُ الظن، والذي يُحسَب من حسن الفطن، يدفع إلى السؤال ما إذا كانت الخارجية الأميركية، علنا هذه المرّة، تستأنف أدواراً ومناشط كهذه، فتتولّى إيفاد أوركسترا إلى الصين، ما قد يذكّر (فقط يذكّر) بالذي أتت عليه مؤلفة الكتاب (في مقالٍ لاحقٍ لها)، عن رعاية "شعبة المنظمّات الدولية" في المخابرات المركزية فنّاني جاز، ودعمها نسخة الرسوم المتحرّكة لرواية جورج أورويل "مزرعة الحيوان"، وبرنامج الرحلات الدولية لفرقة أوركسترا بوسطن السيمفونية.
هي تداعياتٌ تتالت أعلاه وتدافَعت، كيفما اتفق ربما، بعد مشاهدة بلينكن يعزف، فيما معزوفةٌ أميركية لم يسمعها الأردنيون والسعوديون، وعموم العرب، بعد، عن سياسةٍ أميركيةٍ خارجيةٍ مطلوبة، ... وغائبة.