ليبيا وسياسة المصالح والمنافع
عادة ما تبنى السياسة السليمة في كل الدول على مصالحها المنبثقة من قِيمها ومبادئها التي تعتزُّ بها، وتسعى في تحقيقها والمحافظة عليها، مهما اعتراها من تقلّبات، إذ بنيت الدولة الحديثة بمفهومها العام على مقصد أساسي تنطلق منه، وهو تحقيق مصالح شعبها ومواطنيها، تحقيقا في إقامة الدولة، والرّقي بأبنائها؛ بل إن تقدّم أي دولة يُقاس بمقدار ما تقدّمه من خدمات لأبنائها والرقي بالدولة إنساناً وعمراناً، في ظل سياسةٍ حاكمةٍ منضبطة تسير، قدر الإمكان، على ميثاق الدولة وأساس تكوينها، وإذا اختلّ هذا الميزان كانت المصالح والمنافع تدور حول الشخصنة الفردية أو المؤسّسية بعيدة عن الدولة وكيانها، بل تنتقل إلى مناكفة الدولة في أجسامها تطويعاً واختزالاً في فئة سياسية لا تتعدّاها، الأمر الذي تسير معه الدولة إلى اللادولة حتى تختفي المؤسّسات الشرعية حُكماً وتبقى صورة بأفراد وتوجّهات سياسية لا تمثل الشعب ولا إرادته.
بكل هذه المعاني، انتقلت السياسة في ليبيا من القاعدة الشعبية في تأسيس المؤسسات الشرعية والانتقال السلس لها، إلى مصالح ضيقة ومنافع لفئة محدودة بقيت حكراً عليها منذ سنوات، عطلت تجديد الأجسام التشريعية، والسلطة التنفيذية، تدور حول نفسها في كل بارقة أمل لتجديدها، لتعاود الكرة مرة بعد مرة في وضع العصا في دواليب دوران عجلة بناء الدولة وانطلاق مؤسّساتها الحقيقية والفاعلة المنطلقة من القاعدة الشعبية المنشئة لها، الأمر الذي يستوجب على القاعدة الشعبية ونُخَبها العمل على تخطّي هذا الانسداد السياسي المبني على أشخاص في أسرع وقت وأقرب مجال، وإلا فإن العواقب وخيمة على الوطن وأبنائه، فالدولة ما عادت تحتمل أكثر من ذلك، سياسة ولا اقتصادا ولا حتى اجتماعياً، في ظل حالة متزايدة من الانشقاق والتباعد بين الأطراف السياسية الموجودة في المشهد السياسي اليوم، وفي ظل بعثةٍ أمميةٍ ترى الفشل ظاهراً بين أعينها في كل مبادرتها السابقة لتقريب وجهات النظر، أو حتى حلحلة الانسداد السياسي في البلاد، بل ولم تستطع أن تقدم بدائل يمكن أن تكون مقاربة للواقع وتشخيصه، ومن ثم الانطلاق به إلى مرحلة سياسية جديدة، بل كانت البعثة الأممية في ليبيا منذ شهور تدور في فلك مبادرة "الخمسة الكبار" التي ولدت ميتة، وتكرّر الحديث عنها بين الفينة والأخرى، من دون أن تستطيع الولوج في تحقيق ولو بعض جزيئاتها، ناهيك على أن تكون واقعا.
حقيقة المصالح والمنافع في السياسية الليبية، إن كانت هناك سياسة حقيقية، تدور حول الشخصنة، لا بناء الدول
وفي المقابل، اختفى صوت الحديث عن دستورٍ دائم للبلاد، وإن أعلنت اللجنة الموكلة لها إنجازه إتمامه منذ سنوات، وكأن الاستقرار الدائم الذي يحمل في طياته مرجعية داخلية بحتة يمكن الرجوع إليها بعيدا عن الاتفاقات السياسية في أي اختلافٍ لا يجب أن يكون من وجهة نظر المصلحة والمنفعة السياسية الحالية التي في يدها مؤسّسات الدولة اليوم، وذلك لتجد موطئ قدمٍ لها في أي اتفاق سياسي يُصنع في قابل الأيام!
حقيقة المصالح والمنافع في السياسية الليبية، إن كانت هناك سياسة حقيقية، تدور حول الشخصنة، لا بناء الدول والانتقال بها إلى مرحلةٍ دائمةٍ تحكمها القوانين وتُنظمها، وإلا هل يستساغ عقلاً أن يتربع جسم تشريعي مختلف في شرعيته على سلطة البلاد ما يقارب من عشر سنوات، من دون أن ينجح ولو مرّة واحدة في إنشاء توافق داخلي يقود إلى الاستقرار. وبالتالي، الحديث مع هذه الأجسام في الانتقال إلى مرحلة تجديدية تشريعية من عمر الدولة هو ضرب من الخيال، ناهيك عن الاستقرار والتوافق.
تمرّ ليبيا اليوم في مفترق طرق يقود إلى سيناريوهات آثارها وخيمة على الشعب والدولة على المديين، القريب والبعيد، إن لم يكن للقاعدة الشعبية ونُخبها والمؤسّسة التي تبقت فيها كلمة لإنقاذها، وانتشالها من سياسة المصالح والمنافع الشخصية الضيقة، والعمل على السير نحو مرحلة دائمة بعيدة عن الاتفاقات السياسية محدودة الآجال، ويضيع معها الاستقرار والمَرجع عند أي تعثّر أو اختلاف.