عندما تعجز مصر عن نعي الأبطال
اغتيل، في نهاية يوليو/ تموز الماضي، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، والحركة هي الفاعل الأبرز في القضية الفلسطينية منذ ثلاثة عقود. وفي 27 سبتمبر/ أيلول الماضي اغتيل أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، ثمّ هاشم صفيّ الدين. وفي 17 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، استشهد يحيى السنوار، خليفة هنيّة في رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس، والمُخطّط الأوّل لعملية طوفان الأقصى التي تبعتها الحرب الإقليمية الدائرة منذ أكثر من عام عند حدود مصر الشرقية، التي كانت القضية الفلسطينية ووساطات التهدئة والمفاوضات حولها، الملفّ الأكثر أهمّية في الدور الإقليمي والدولي لمصر عقوداً، منذ تحييد مصر عسكرياً بشكل شبه تامّ عن الصراع، وإخراجها منه باتفاقية كامب ديفيد (1978)، وملحقاتها.
اللافت للانتباه في تلك الأحداث كلّها أن مصر الدولة بمؤسّساتها الرسمية، سواء الرئاسة أو وزارة الخارجية أو أيّ من القنوات الإعلامية الرسمية وشبه المؤمّمة لصالح النظام، التي تعمل عبر توصيات مرسلة من جهاز سامسونغ، فيما يعرف بـ"إعلام السامسونغ"، لم يصدر منها (هذه المؤسّسات والكيانات) أيّ إدانة واضحة أو نعي ولو شكلياً لأيٍّ من هؤلاء الضحايا، والرموز الذين قضوا في حرب إقليمية يمكن النظر إليها باعتبارها تدور في المجال الحيوي لمصر، وأنها ضمن خطوط الدفاع الأولى لمصر عبر التاريخ والجغرافيا.
نعى بيان الأزهر، رغم عموميته، شهداء المقاومة الفلسطينية الأبطال، رافضاً نعتهم بالإرهابيين
قد يقول قائل إن هذه سياسة دولة، وإنه لا ينبغي الانجرار وراء العواطف الجيّاشة للعامّة. والحقيقة أنّنا لا نعتقد أن الحكومة المصرية، ونظيراتها في بعض البلدان العربية، ستتأخّر يوماً عن تعزية شعب الكيان الإسرائيلي إذا اغتيل نتنياهو أو أحد قيادات حكومته أو جيشه أو حتى تُوفّي وفاةً طبيعيةً، بل إن حكوماتنا توزّع برقيات التعزية وترسل مبعوثين أحياناً للتعزية في ضحايا فيضانات وكوارث طبيعية ومسؤولين، هنا وهناك، فما الذي منعها من ذلك؟
في غياب هذا النعي، وجدنا بياناً جيّداً للأزهر (رغم عموميّته)، ينعى شهداء المقاومة الفلسطينية الأبطال، رافضاً نعتهم بالإرهابيين، وذهب شيخ الأزهر أحمد الطيّب إلى وصفهم بأنهم كانوا "مرابطين مقاومين متشبثين بتراب وطنهم، حتى رزقهم الله الشهادة وهم يردون كيد العدو وعدوانه، مدافعين عن أرضهم وقضيتهم وقضيتنا باعتبارها قضية العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها". وهذا ما تجود به قريحة مصر الجريحة في السياق الحالي للأسف، ولذا، فإن سقف المتوقّع من مصر ينخفض يوماً بعد يوم، فحتى شيخ الأزهر لم يستطع ذكر اسم السنوار أو هنيّة، أو أسماء أيّ من زعماء حزب الله، الذين قضوا في بيانه، مما ضايق بعضهم حسرةً على ما وصلنا إليه، ودفع آخرين إلى الدفاع عن الرجل باعتبار هذا سقف الممكن، وهذا السقف ينخفض يوماً بعد يوم، حتى أننا لم نجد صلوات الجنازة الاعتيادية على شهداء غزّة ولبنان، ناهيك عن قيادات المقاومة ورموزها. ولم يذرّ الرماد سوى بعض بيانات لنقابة الصحافيين والمحامين، وبيانات بعض الأحزاب والقوى المُعارِضة.
عجزت مصر الرسمية إذاً عن نعي هؤلاء الأبطال، بل كان الصوت الأعلى إعلامياً للنقد الحادّ لرجالات المقاومة، الذين قضوا، ولنهج المقاومة بعد أكثر من عام على الحرب، وطغى خطابٌ إعلاميٌّ يلوم الضحايا، بل يمجّد بعضه الجلّاد للأسف، كما يحاول أن يفعل إبراهيم عيسى ورفاقه، منذ الأيام الأولى للحرب، مرّة بدعوى أنهم لم يستشيروا أحداً في بدء الحرب، ومرّات بالقول إن المقاومين يريدون دماءً للمتاجرة بها، ومرّات يمجّدون ذكاء السلاح وقدرة إسرائيل على الوصول إلى قيادات "حماس" وحزب الله وإيران، في استمرار لمسلسل الخزي والعار لبعض قنوات الإعلام، الذي لا يمكن إلا اعتباره عبرياً متحدّثاً بالعربية. فيما ذهب أحمد موسى بعيداً بالمزايدة بانتصارات حرب أكتوبر (1973)، وبالنقاش حول من الشهيد. وانفعل قائلاً إنه ضدّ المليشيات في البلاد كلّها، واستمرّ في تحميلهم مسؤولية عمليات إرهابية في مصر، واقتحام الحدود، واغتيال ضبّاط جيش وشرطة وقضاة مصريين، مفاخراً بأنه وبّخ بعض النقابات المحتفين بالسنوار وأبطال المقاومة، والناعتين له، مزايداً عليهم بمن مات من الجيش والشرطة في سيناء، وغيرها، في وصلة توبيخ وتقريع ومزايدة طغت في حلقة برنامجه بُعيَد استشهاد السنوار.
لا ندري لماذا هذا التردّي والعناد والمكابرة من أجهزة سيادية تحرّك المشهد الإعلامي، وتعرف ما يدور في مواقع التواصل من تعاطف شبه تام مع القضية الفلسطينية، ومع ضحايا حرب الإبادة الجماعية الدائرة، في فلسطين ولبنان. والموقف كذلك، فإن مجاراة هذه الموجة الشعبية من التعاطف كانت تقتضي بياناً مقبولاً على الأقلّ بالنعي كما ننعى الأغراب.
ولو كانت هناك دولة مصرية تدرك مقتضيات أمنها القومي بحقّ لخلّدت هؤلاء الأبطال، الذين يقفون في خطّ دفاعنا الأول ضدّ عدوّ لا يؤمن بحدود، وينشر خريطته المزعومة لما يُسمَّى بإسرائيل الكبرى، التي تشمل مساحةً شاسعةً من بلادنا، باعتبارها الأرض الموعودة، ويحمل شاراتها جنوده في ميادين القتال كلّها، ويتنامى حديثهم عن الحرب الدائمة والموسّعة لتحقيق هذا الغرض بيد حكومة اليمين الديني المتطرّفة، التي تغذّي هذه المشاعر. وليس مُستبعَداً أبداً أن تستمرّ في توسّعها حال انهيار المقاومة ورموزها (لا قدّر الله). والحال كذلك، فإن مصلحةً استراتيجيةً تقتضي الاقتراب أكثر من موقف المقاومة، وبالذات في إطار التنافس على الأدوار الإقليمية، وفي إطار حقائق الجغرافيا والتاريخ، بل والبيانات الرسمية للدولة المصرية القائلة بوحدة وتكامل الأمن القومي العربي.
أعلنت مصر أنها ضدّ تهجير الفلسطينيين، لكنّها لم تواجه "خطّة الجنرالات"، كأن تستخدم معاهدة السلام مع إسرائيل ورقة ضغط
صحيح أن مصر أعلنت أنها ضدّ تهجير الفلسطينيين، لكنّها لم تفعل شيئاً يذكر لوقفه عملياً، بينما تسير "خطّة الجنرالات" وتجبر سكّان الشمال على النزوح، بل لم تستخدم ورقة الضغط الوحيدة التي تمتلكها وهي معاهدة السلام مع إسرائيل، وملاحقها الأمنية، ومنها اتفاقية محور صلاح الدين (فيلادلفي) لسنة 2005، وكان ممكناً حدّاً أدنى متواضعاً أن تتقدّم بشكوى لمجلس الأمن ضدّ احتلال إسرائيل معبر رفح، بوصفه خرقاً صريحاً لاتفاقية إدارة المعبر، وكان يمكن أن تصعّد وتلوّح بإلغاء هذا الاتفاقية، أو أن تبادر للتحلّل منها بالفعل نتيجة الانتهاكات الإسرائيلية المتكرّرة لها، وتنشر عدداً محدوداً من قواتها في حدودنا، ولو من قبيل الضغط لا أكثر، بهدف ردع التحرّكات الإسرائيلية وتسهيل دخول المساعدات. كان يمكن أن تنضمّ مصر فعلياً لجنوب أفريقيا في قضيتها ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية ولم تفعل، رغم أن هذه الأفعال البسيطة هي في إطار الممكن، وتحقّق زخماً للموقف المصري وللدور الإقليمي للدولة العربية الأكبر، التي لطالما روّجت نفسها وسيطاً وحيداً للسلام في المنطقة، فلصالح من هذا العجز، وذلك التدهور في الدور الإقليمي العاجز حتى عن مُجرَّد النعي والإدانة والشجب لاغتيال الأبطال؟